الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، سبتمبر 30، 2025

أنكسيمندر: الفيلسوف الذي فتح أفق اللامحدود: عبده حقي


يُعد أنكسيمندر الملطي (610 – 546 ق.م) واحداً من أبرز فلاسفة المدرسة الأيونية الأوائل الذين سعوا إلى تفسير الكون والوجود خارج الأطر الأسطورية السائدة في عصرهم. وإذا كان سلفه طاليس قد اعتبر الماء أصلاً لكل شيء، فإن أنكسيمندر ذهب أبعد من ذلك ليطرح فكرة أكثر تجريداً: مبدأ غير محدد سماه "الأبيرون" (apeiron)، أي اللامحدود أو اللانهائي. ورغم أن مؤلفاته ضاعت ولم يصلنا منها سوى شذرات قليلة عبر نقول أرسطو وثيوفراست وغيرهما، فإن فكره ظل علامة فارقة في تاريخ الفلسفة.

يؤكد أنكسيمندر أن أصل الأشياء لا يمكن أن يكون عنصراً مادياً محدوداً مثل الماء أو النار، لأن كل ما هو محدود قابل للفناء والتغير. لذلك لا بد أن يكون المبدأ الأول لانهائياً، لا يُستنزف، ولا ينتمي إلى عنصر بعينه. هذا المبدأ، المسمى بالأبيرون، هو الذي تنبثق عنه الموجودات وتعود إليه في دورة أبدية.

ومن أشهر ما نُسب إليه قوله: "من حيث تولدت الأشياء، إلى هناك تعود لتُفنى بحسب الضرورة، لأنها تؤدي لبعضها العقاب عما اقترفته من ظلم، وفق نظام الزمن". هذه العبارة الغامضة فسّرها كثير من الدارسين على أنها تصور لعدالة كونية تحفظ التوازن بين قوى الطبيعة.

تميّز أنكسيمندر بجرأة فكرية في رؤيته للكون. فقد افترض أن الأرض لا تستند إلى شيء، بل تسبح حرة في مركز العالم، وهو تصور سبق بمئات السنين النظريات الحديثة. كما اعتبر أن الشمس والقمر والنجوم ليست آلهة أو كائنات أسطورية، بل حلقات نارية ضخمة ذات فتحات يخرج منها الضوء، وعندما تُغلق هذه الفتحات تحدث الظواهر كالكسوف والخسوف.

وحدد أيضاً نسباً بين حجم الأرض وأبعاد الشمس والقمر، في محاولة بدائية لتقدير البنية الكونية عبر مقاييس عقلية، وهو ما يعكس نزوعه إلى إخضاع الطبيعة لقوانين قابلة للفهم.

لم يقتصر اهتمام أنكسيمندر على السماء، بل امتد إلى الحياة على الأرض. فقد ذهب إلى أن الكائنات الحية نشأت أولاً في البيئة الرطبة، وأن الإنسان نفسه ظهر في شكل مختلف ثم تطور ليعيش على اليابسة. ورغم بساطة هذه الرؤية، فإنها تكشف عن حدس مبكر بفكرة التطور الحيوي، أي أن الكائنات ليست ثابتة وإنما تتغير مع مرور الزمن.

تعاني دراسة أنكسيمندر من معضلة أساسية هي فقدان نصوصه الأصلية، إذ لا نعرفه إلا من خلال شذرات مجتزأة وشروح لاحقة، ما يجعل التأويل مفتوحاً أمام قراءات متباينة. فالبعض يرى في "الأبيرون" مفهوماً ميتافيزيقياً صرفاً، بينما يقرأه آخرون على أنه محاولة لتجريد العناصر المادية إلى مبدأ شامل. لكن المؤكد أنه كان من أوائل من انتقلوا من التفسير الأسطوري إلى التفسير العقلي، ومن اللغة الشعرية إلى الكتابة النثرية الفلسفية.

امتد تأثير أنكسيمندر إلى معظم الفلاسفة الطبيعيين الذين جاؤوا بعده. فهراقليطس وبارمنيدس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وجدوا أنفسهم في حوار مباشر أو غير مباشر مع فكرة المبدأ الأول، ومع التساؤل حول المحدود واللامحدود. بل يمكن القول إن أنكسيمندر دشّن بجرأته الفكرية مساراً سيظل الفلاسفة يسلكونه: البحث عن أصل كلي يفسر تنوع العالم.

أنكسيمندر ليس مجرد اسم في سجل الفلاسفة، بل هو نقطة تحول في تاريخ الفكر الإنساني. فقد أخرج الأسئلة الكبرى من دائرة الأسطورة إلى أفق العقل، وربط بين الكون والإنسان في شبكة من العلاقات يحكمها مبدأ اللامحدود. وعلى الرغم من أن كثيراً من نظرياته قد تجاوزها العلم الحديث، إلا أن قيمتها التاريخية تكمن في كونها أول محاولة لبناء تفسير شامل للوجود اعتماداً على العقل وحده. وهكذا يبقى أنكسيمندر شاهداً على اللحظة التي بدأ فيها الفكر الفلسفي يخطو نحو الكونية والتجريد.

0 التعليقات: