الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، سبتمبر 09، 2025

العربية خارج خريطة «AI Mode» في جوجل: توسّع عالمي بلا لغة الضاد


منذ إعلان جوجل عن توسع وضع الذكاء الاصطناعي (AI Mode) في نتائج البحث ليشمل مزيداً من اللغات، أثير جدل واسع في الأوساط العربية، خصوصاً بعد أن تبيّن أن اللغة العربية، رغم حضورها الواسع في العالم الرقمي وعدد المتحدثين بها الذي يفوق 400 مليون نسمة، ما زالت غائبة عن هذه القائمة. ويطرح هذا الغياب أسئلة عديدة حول أولويات الشركة الأميركية في توسيع نطاق تقنياتها الذكية، وحول موقع اللغة العربية في المشهد الرقمي العالمي.

يُعدّ AI Mode أحدث إضافة من جوجل إلى تجربة البحث. الفكرة تقوم على أن المستخدم لم يعد بحاجة إلى استعراض عشرات الروابط كي يجد إجابة، بل يحصل مباشرة على خلاصة ذكية مدمجة في صفحة النتائج، تتولى الذكاء الاصطناعي صياغتها بالاعتماد على مصادر متعددة. جوجل تصف هذا التوجه بأنه "الجيل الجديد من البحث"، الذي يختصر الجهد والوقت ويمنح إجابات أكثر تكاملاً وسياقية.

ورغم أن هذه التقنية كانت مقتصرة على اللغة الإنجليزية عند إطلاقها، فقد أعلنت الشركة يوم 8 سبتمبر 2025 عن توسيعها لتشمل خمس لغات جديدة هي: الهندية، الإندونيسية، اليابانية، الكورية، والبرتغالية البرازيلية. وهو ما يعني، عملياً، أن مليارات البشر حول العالم صار بإمكانهم تجربة هذه الواجهة الذكية بلغاتهم الأم. لكن العربية، التي تعتبر واحدة من اللغات الرسمية للأمم المتحدة وإحدى أكثر اللغات نمواً على الإنترنت، بقيت خارج القائمة.

هذا الاستبعاد لا يعني أن جوجل لا تدعم العربية مطلقاً في منتجاتها. على العكس، فقد أعلنت الشركة في مايو 2025 عن إطلاق AI Overviews (الملخصات الذكية) باللغة العربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما أتاح للمستخدم العربي اختبار جزء من قوة الذكاء الاصطناعي في البحث.

كما أن Gemini في Google Workspace الخدمات السحابية مثل Gmail وDocs وMeet)  أصبح يدعم العربية في الكتابة والتصحيح والتفاعل، إلى جانب NotebookLM  الذي يتيح تحويل النصوص إلى خلاصات صوتية عربية.

لكن الفرق جوهري بين هذه الخدمات وبين AI Mode فالأخير يمثل واجهة البحث الجديدة نفسها، أي أنه يغيّر جوهر العلاقة بين المستخدم والإنترنت. ولذلك، فإن غياب العربية عن هذا التحول يعني أن المستخدم العربي سيظل مضطراً للتعامل مع نموذج البحث التقليدي، في وقت يتحول فيه العالم إلى جيل جديد من البحث الذكي.

ثمة تفسيرات متعددة لغياب العربية عن قائمة اللغات المدعومة. أولها يرتبط بطبيعة اللغة نفسها؛ فاللغة العربية غنية بالتشكيل الصرفي، وتعدد لهجاتها قد يشكل تحدياً إضافياً أمام النماذج اللغوية. ومع ذلك، فإن لغات مثل الهندية أو الإندونيسية ليست أقل تعقيداً من الناحية البنيوية. وبالتالي، فإن المسألة لا تبدو تقنية بحتة.

الاحتمال الثاني يتعلق بما تسميه جوجل "الجاهزية السوقية". فربما ترى الشركة أن الطلب على AI Mode في الأسواق العربية لم يبلغ بعد مستوى يبرر الاستثمار الضخم في تدريب النماذج على العربية. لكن هذا التفسير يصطدم بواقع أن المنطقة العربية تُعتبر واحدة من أسرع الأسواق الرقمية نمواً، حيث يسجل المغرب والسعودية ومصر والإمارات نسب استخدام مرتفعة جداً للذكاء الاصطناعي والتطبيقات الذكية.

أما التفسير الثالث فيرتبط بالسياسات التوسعية لجوجل، التي تميل إلى التركيز على اللغات الآسيوية الكبرى والأسواق ذات الكثافة السكانية العالية مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا. وفي هذا السياق، تبدو العربية مؤجلة إلى مرحلة لاحقة، رغم أهميتها الثقافية والدينية والاقتصادية.

غياب العربية عن AI Mode يضع المتحدثين بها أمام مفارقة لافتة: فمن جهة، هم جزء من سوق يتوسع رقمياً بشكل غير مسبوق؛ ومن جهة أخرى، يجدون أنفسهم خارج دائرة أحدث الابتكارات في مجال البحث الذكي. وهذا يعني أن المستخدم العربي، سواء كان باحثاً أو صحفياً أو طالباً، سيظل يعتمد على نتائج تقليدية أكثر، بينما يحظى مستخدم في الهند أو كوريا بتجربة أكثر سلاسة وذكاء.

كما أن لهذا الغياب بُعداً معرفياً؛ إذ أن إعادة تشكيل المعرفة الرقمية عبر أدوات الذكاء الاصطناعي يجري حالياً بلغات أخرى، بينما اللغة العربية قد لا تواكب هذا التحول إلا متأخرة. وقد يؤدي ذلك إلى فجوة معرفية جديدة، حيث تصبح المعلومة المنتجة بالذكاء الاصطناعي أقل حضوراً بالعربية، وأكثر سيطرة باللغات الأخرى.

مع ذلك، هناك مؤشرات على أن دعم العربية قادم، ولو بخطوات متأخرة. فقد سبق أن أطلقت جوجل العربية في منتجاتها الأخرى بعد فترة من إطلاقها بلغات أخرى، كما حدث مع Gmail الذكي وGoogle Translate  وخدمات Gemini. وبالنظر إلى الضغوط المتزايدة من مستخدمين عرب ومنتديات تقنية طالبت بدمج العربية وحتى الدارجة المغربية في خيارات الذكاء الاصطناعي الصوتي، فإن الشركة قد تضطر عاجلاً أم آجلاً لإدخال العربية إلى AI Mode.

القضية لا تتعلق فقط بالجانب التقني، بل أيضاً بمفهوم العدالة الرقمية. فإذا كانت جوجل تريد حقاً أن تجعل الذكاء الاصطناعي أداة عالمية، فمن غير المنطقي أن تبقى لغات كبرى مثل العربية خارج الخريطة. فالتجربة الرقمية لا تكتمل إلا إذا شملت كل اللغات والثقافات، وإلا ستعيد إنتاج الفوارق المعرفية القديمة ولكن في ثوب تكنولوجي جديد.

إن غياب العربية اليوم عن «AI Mode» ليس نهاية المطاف، لكنه جرس إنذار للمؤسسات الأكاديمية والهيئات اللغوية وصنّاع القرار في العالم العربي. المطلوب ليس انتظار جوجل كي تتحرك، بل الاستثمار في نماذج لغوية عربية مستقلة، وضمان أن يكون للعربية موقعها الطبيعي في الثورة الرقمية الجارية. فكما أن اللغة كانت دوماً وعاء للثقافة والحضارة، فإن حضورها في الذكاء الاصطناعي سيكون معياراً لمدى قدرتها على البقاء والتجدد في القرن الحادي والعشرين.

0 التعليقات: