منذ أن بدأت المؤسسات الإعلامية الكبرى في اختبار الذكاء الاصطناعي لتوليد الأخبار، ظهر سؤال جوهري: هل يمكن لآلة، تفتقر إلى التجربة الإنسانية والوجدان، أن تنتج خطاباً إعلامياً قادراً على حمل النبرة العاطفية التي تحرك القارئ وتؤثر في وعيه؟ هذا التساؤل لا يخص التقنية وحدها، بل يتجاوزها ليطال طبيعة الصحافة ذاتها، بوصفها فناً يتأرجح بين نقل الوقائع وبناء سردية مشحونة بالإيحاءات.
أحد أبرز التحولات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي هو الميل إلى تبسيط العاطفة أو "تسطيحها". في تقرير نشرته MIT Technology Review عام 2023، أشير إلى أنّ الخوارزميات المصممة لتوليد النصوص تميل إلى تجنب الانفعالات الحادة، فتنتج محتوى متوازناً لكنه قد يبدو بارداً أو محايداً إلى حدّ يفقده الأثر. يشبه الأمر لوحات فنية مرسومة بدقة تقنية عالية، لكن بلا روح الرسام التي تمنح العمل عمقه الإنساني.
إلا أنّ هذا
"البرود الاصطناعي" لا يخلو من مفارقات. ففي بعض الحالات، أظهرت الدراسات
أنّ النصوص المولّدة آلياً يمكن أن تضخم العاطفة أو تضفي عليها طابعاً دراميّاً غير
مقصود.
تقرير مؤسسة
رويرتز
(2024) أشار إلى
أن الأخبار المنتَجة عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تحمل انحيازاً غير مرئي في اختيار
المفردات أو في بناء الجملة، بحيث يتحوّل الحياد المزعوم إلى عاطفة مموّهة. هنا يطل
سؤال أخلاقي مقلق: من يضمن ألا تتحول هذه "النبرة الاصطناعية" إلى وسيلة
للتلاعب العاطفي بالجماهير؟
من الناحية الأدبية،
يذكّرنا هذا الجدل بما طرحه والتر بنجامين في نصه الكلاسيكي عمل الفن في عصر إعادة
إنتاجه الآلي (1936)، حيث اعتبر أنّ فقدان "الهالة" أو البعد الإنساني للفن
بفعل الآلة يغير جذرياً طريقة تلقيه. بالقياس إلى الصحافة، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي
يهدد "هالة الخبر"، أي تلك القدرة على حمل أثر المراسل وشخصيته وخبرته الميدانية
التي تشحن النص بنبرة فريدة.
لكن لا ينبغي حصر النقاش في المنطق التحذيري وحده. فكما أن الكاميرا لم تُلغِ الفن التشكيلي بل أعادت تعريفه، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفتح أفقاً جديداً أمام الصحافة. في دراسة حديثة نشرت في Journalism Studies (2022)، جرى التأكيد على أنّ الخوارزميات قادرة على تحليل ملايين التفاعلات على شبكات التواصل الاجتماعي لرصد اتجاهات المشاعر العامة، ما قد يساعد الصحفيين في فهم المزاج الجماعي وصياغة أخبار أكثر دقة. هنا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى مرآة تلتقط ملامح العاطفة الجماعية، حتى وإن ظل عاجزاً عن محاكاتها بدقة بشرية.
التحدي إذن ليس في
إقصاء الذكاء الاصطناعي أو الانصياع له، بل في إعادة صياغة العلاقة بين العقل البشري
والآلة. الصحفي، بخبرته، يظل قادراً على ضبط النبرة، على اختيار الاستعارة المناسبة،
وعلى إدخال البُعد الإنساني الذي لا يمكن أن يُستنسخ برمجياً. في المقابل، يمنح الذكاء
الاصطناعي أدوات تحليلية وسرعة إنتاج لا غنى عنها في عالم متسارع.
هكذا، يبدو مستقبل
النبرة العاطفية في الأخبار وكأنه ساحة صراع بين دفء التجربة الإنسانية وبرود الخوارزمية.
وإذا كان الإعلام مرآة للمجتمع، فإن السؤال يظل مفتوحاً: أي صورة نريد أن تعكسها هذه
المرآة—صورة عقلانية محايدة، أم صورة مشحونة بألوان العاطفة التي تمنح الخبر معناه
وتأثيره؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق