في السنوات الأخيرة، عاد موضوع الأمن الروحي إلى واجهة النقاش في المغرب، باعتباره ركناً أساسياً من أركان الاستقرار الوطني. هذا البعد لم يعد مجرد شعار سياسي أو ديني، بل تحول إلى سياسة دولة مرتبطة بتحديات الداخل وضغوط الخارج. وفي هذا السياق، جاء التقرير الأخير لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، المرفوع إلى الملك محمد السادس، ليضع الأصبع على الجرح: ضعف التدين في المجتمع المغربي، وخطورته على التوازن الروحي والفكري للأمة.
يشير التوفيق إلى أن
مظاهر التدين في المغرب باتت في كثير من الأحيان سطحية، قائمة على العادات والتقاليد
أكثر من كونها ممارسة واعية لجوهر الدين. هذا "التدين الهش" يخلق فراغاً
روحياً قد يُستغل من طرف تيارات متشددة أو نزعات إلحادية، في ظل عالم مفتوح على شبكات
التواصل وتيارات فكرية عابرة للحدود. هنا يبرز السؤال: هل ما نعيشه اليوم هو تراجع
في التدين ذاته، أم مجرد تحوّل في أشكاله وأنماطه؟
التوفيق دعا صراحة
إلى تدخل العلماء لملء هذا الفراغ، ليس عبر خطاب تقليدي يكرر مواعظ محفوظة، بل من خلال
اجتهاد فكري وتجديدي يستوعب أسئلة الشباب وتحديات العصر. وهذا يفتح نقاشاً أوسع حول
دور المجالس العلمية، ومعاهد تكوين الأئمة، ومدى قدرتها على إنتاج خطاب ديني متجدد
يحافظ على الثوابت دون أن ينغلق على الأسئلة الحداثية. فالمسألة لم تعد مجرد
"وعظ وإرشاد"، بل صارت قضية بناء وعي جماعي قادر على الصمود أمام التفكك
القيمي.
منذ أحداث 2003 بالدار
البيضاء، وضعت الدولة المغربية الأمن الروحي في قلب استراتيجيتها، من خلال إصلاح الحقل
الديني، وتكوين الأئمة المرشدين، وتعزيز دور العلماء. واليوم، يظهر أن هذه الجهود،
رغم أهميتها، لا تكفي وحدها لمواجهة تحديات جيل جديد يعيش بين فضاء محلي محافظ وفضاء
رقمي كوني مفتوح. التوفيق يذكّر بأن الأمر يتطلب مشاركة جماعية: الأسرة، المدرسة، الإعلام،
والمجتمع المدني، إلى جانب العلماء.
ميزة المغرب تكمن في
ما يسميه الباحثون بـ"التدين المغربي الأصيل"، القائم على المذهب المالكي
والعقيدة الأشعرية والتصوف الجنيدي، وهو ما وفر للبلاد حصانة نسبية ضد التطرف. غير
أن الحفاظ على هذا النموذج يحتاج اليوم إلى تحديث أدواته، وإعادة صياغة خطابه بلغة
مفهومة للأجيال الجديدة. وإلا فإن الأصالة ستبقى مجرد شعار مكرر يفقد بريقه أمام الواقع
المتغير.
تحذيرات التوفيق لا
يمكن النظر إليها كتنبيه إداري عابر، بل كرسالة سياسية ودينية عميقة: ضعف التدين ليس
مسألة شخصية، بل قضية أمن وطني. وإذا كان الأمن الروحي يمثل خط الدفاع الأول عن هوية
المغرب واستقراره، فإن تجديد الخطاب الديني وتفعيل دور العلماء بات اليوم ضرورة وجودية،
لا مجرد خيار فكري أو وعظي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق