الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، سبتمبر 10، 2025

فريدريك نيتشه: الفيلسوف الذي واجه العدمية وأعاد ابتكار القيم: عبده حقي


يُعدّ فريدريك نيتشه (1844 – 1900) أحد أبرز الفلاسفة الألمان وأكثرهم تأثيرًا في الفكر الغربي الحديث. لم يكن مجرّد ناقد للموروثات الفلسفية والأخلاقية والدينية، بل كان مفكرًا متمرّدًا أعاد صياغة أسئلة الوجود، وأثار نقاشًا عميقًا حول معنى القيم والحياة بعد "موت الإله". ومن خلال كتاباته الفلسفية والشعرية، فتح نيتشه الباب أمام مقاربات جديدة للإنسان، وللحرية، ولإمكانات الخلق الذاتي.

أحد أكثر المفاهيم شهرة في فكر نيتشه هو إعلان "موت الإله". لم يكن يقصد بذلك مجرّد إنكار ديني، بل كان يعني انهيار الأسس الميتافيزيقية والأخلاقية التي بنتها الديانات والتقاليد الغربية لقرون طويلة. هذا الانهيار أفرز حالة من العدمية، أي الإحساس بأن العالم بلا معنى موضوعي أو قيم ثابتة. بالنسبة لنيتشه، العدمية ليست فقط تهديدًا، بل أيضًا فرصة للتحرر وإعادة خلق معانٍ جديدة.

لم يكتف نيتشه بنقد القيم السائدة مثل الشفقة، المسؤولية، والحرية بمعناها التقليدي، بل رأى أن هذه المفاهيم قائمة على وهم ميتافيزيقي. وفي مقابل هذا الهدم، طرح مشروعًا آخر: أخلاق الحياة التي تدعو إلى الإيجاب والخلق، لا إلى الخضوع أو الإنكار. وهنا يظهر مفهومه عن "الإنسان الأعلى " (Übermensch)، أي الكائن الذي يتجاوز القيود المفروضة عليه، ويخلق قيمه الخاصة عبر الإرادة والقوة الداخلية.

بدلًا من كتابة تاريخ فلسفي تقليدي، اقترح نيتشه منهجًا سماه "الجينيالوجيا"، وهو البحث عن الجذور النفسية والاجتماعية التي أفرزت القيم الأخلاقية. بهذا المعنى، لم يعد التاريخ سردًا عقلانيًا متصاعدًا كما عند هيغل، ولا مجرد حياد علمي، بل أداة لكشف آليات السلطة والمصالح التي صنعت ما نعتبره اليوم "حقائق" أو "فضائل".

في نظر نيتشه، العدمية ليست مجرد فراغ مخيف، بل مرحلة ضرورية في مسار الفكر. إنها نهاية الأوهام القديمة، لكنها أيضًا بداية لتحرر الإنسان من القيود ولفتح المجال أمام بناء قيم جديدة. من هنا جاءت رؤيته بأن مواجهة العدمية تتطلب شجاعة وجودية قادرة على تحويلها إلى قوة خلاقة، لا إلى استسلام.

العود الأبدي: فكرة أن كل ما يحدث سيعود ويتكرر إلى الأبد. هذا التصور ليس طرحًا علميًا بقدر ما هو تجربة فكرية واختبار أخلاقي: هل يمكننا أن نعيش حياتنا بحيث نقبل تكرارها بلا ندم؟

الإنسان الأعلى (السوبيرمان) : ليس بطلًا خارقًا، بل نموذجًا رمزيًا للإنسان الذي يجرؤ على تجاوز الموروثات، ويخلق نفسه من جديد عبر الحرية والإبداع.

رغم وفاته في عزلة مأساوية عام 1900، ظل فكر نيتشه حاضرًا بقوة في الفلسفة والأدب والفن والسياسة. فقد أثر على مفكرين مثل هايدغر وفوكو، وعلى تيارات كبرى مثل الوجودية وما بعد الحداثة. وما يميّز فلسفته أنها لم تُقدّم أجوبة نهائية، بل أثارت أسئلة مفتوحة لا تزال تتردد حتى اليوم حول المعنى، الحرية، والقوة الخلّاقة للإنسان.

نيتشه هو الفيلسوف الذي لم يكتفِ بانتقاد الماضي، بل دعا إلى مستقبل مختلف. لقد رأى في سقوط القيم القديمة فرصة لصياغة قيم جديدة affirm  الحياة بدلًا من إنكارها. وبين العدمية والإنسان الأعلى والعود الأبدي، صاغ رؤية جريئة للوجود ما زالت تلهم وتستفز في آن واحد.

0 التعليقات: