منذ سنوات، والمغرب يحاول أن يجعل من مدن الصحراء، وعلى رأسها العيون، واجهة سياسية واقتصادية تعكس استراتيجيته في ترسيخ سيادته على الأقاليم الجنوبية. المدينة التي تضم اليوم أكثر من 260 ألف نسمة لم تعد مجرد تجمع عمراني، بل تحولت إلى فضاء إداري وتعليمي وبنيوي حديث، يضم مقرات للمؤسسات الرسمية، وجامعات، وبنيات تحتية تعكس حجم الاستثمارات الضخمة التي تضخها الرباط في المنطقة.
هذا التوجه التنموي
لا ينفصل عن السياق الجيوسياسي. فالمغرب، الذي يعتبر الصحراء جزءاً لا يتجزأ من ترابه
الوطني، يسعى عبر مشاريع عملاقة إلى فرض معادلة جديدة على خصومه: التنمية مقابل الجمود،
والواقعية مقابل الشعارات. لذلك نرى أن الاستثمارات في الطاقات المتجددة، مثل مشاريع
الرياح في اتجاه بئر أنزران، أو المركب المينائي الضخم "الداخلة الأطلسي"،
الذي يُرتقب أن يتحول إلى قطب تجاري غرب إفريقي عند اكتماله سنة 2028، ليست مجرد أوراش
اقتصادية بل رسائل استراتيجية تؤكد أن المغرب يبني على الأرض ما يظل خصومه عالقين فيه
نظرياً.
الرهان المغربي يتجاوز
أيضاً الإطار المحلي إلى البعد الدولي. فمنذ نوفمبر 2024، توالت زيارات وفود فرنسية
رفيعة المستوى إلى لايون، في مؤشر على اعتراف متنامٍ من القوى الأوروبية بالواقع الجديد
الذي يفرضه المغرب في الصحراء. هذه الزيارات، وإن لم تصل بعد إلى مستوى الاعتراف الرسمي
الفرنسي بسيادة المغرب، تعكس إرادة عملية في التعامل مع المنطقة باعتبارها مجالاً حيوياً
للاستثمار والشراكة.
غير أن هذا المسار
لا يخلو من تعقيدات. فالأمم المتحدة ما زالت تعتبر الصحراء "إقليماً غير متمتع
بالحكم الذاتي"، والملف ما زال رهينة تجاذب طويل بين المغرب وجبهة البوليساريو
صنيعة النظام الجزائري. بعد نصف قرن من المحاولات الفاشلة، لم تتمكن المنظمة الدولية
من تنظيم الاستفتاء الذي وعدت به منذ اتفاق وقف إطلاق النار عام 1991. في المقابل،
يطرح المغرب مشروع الحكم الذاتي كحل سياسي عملي وجدِّي، لقي تأييداً متزايداً من عواصم
مؤثرة، في حين يبدو أن الطرح الانفصالي يزداد عزلة مع مرور الوقت.
إن استعراض "واجهة العيون التنموية" هو جزء من معركة الأطروحة السياسية. فالمغرب يدرك أن التنمية الشاملة، المدعومة بالاستقرار الأمني، قادرة على تحويل النقاش الدولي من منطق الاستفتاء العقيم إلى منطق الحلول الواقعية والمستقبلية. وهنا تكمن قوة الأطروحة المغربية: الجمع بين البعد الاقتصادي كقوة ناعمة، والبعد الدبلوماسي كقوة صلبة تفرض حضورها تدريجياً في دوائر القرار الدولي.
في المحصلة، يمكن القول
إن المغرب، من خلال استراتيجيته التنموية في الصحراء، قد نجح في تحويل مدن مثل العيون
والداخلة والسمارة إلى مختبر سياسي واقتصادي لمشروعه الوطني والإفريقي. بينما تستمر
الأمم المتحدة في البحث عن توافق ضائع، يبني المغرب على الأرض سرديته الخاصة: سردية
تؤكد أن المستقبل لا يكتبه من يملك الشعارات، بل من يملك القدرة على تشييد الموانئ
والجامعات ومشاريع الطاقة المتجددة، وجعلها جسراً نحو إفريقيا والعالم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق