يُعَدّ أنكسارخس (Anaxarchus) أحد الأسماء الفلسفية التي عاشت في الظل، وظلت حاضرة في النصوص القديمة بقدر ما ارتبطت بشخصية الإسكندر الأكبر وبالرحلة إلى الشرق، أكثر مما ارتبطت بمؤلفات أو منظومات فكرية مكتوبة.
وُلد حوالي 380 قبل الميلاد، وتوفي حوالي 320 ق.م.، وقد ورد ذكره كرفيق للإسكندر في حملاته، وكمصاحب للفيلسوف بيرون في رحلته إلى الهند. ومع ذلك فإننا لا نملك له كتباً محفوظة، وما وصلنا من فكره ليس سوى شذرات متناثرة في شهادات المؤرخين وفلاسفة لاحقين، كثير منها متداخل بين الواقع والأسطورة.
أبرز ما نُقل عن أنكسارخس
أنه كان يعتبر الأشياء التي نراها ليست هي ذاتها، بل أشبه بلوحات مرسومة على مسرح،
أي أنها مجرد مظاهر أو صور وليست الجوهر الحقيقي. فالإحساس بالشجرة أو الحجر أو البحر
ليس إدراكاً مباشراً للشيء، وإنما هو انطباع ذهني قد يكون مثل أحلام النائم أو هلوسات
المجنون. ومن هنا، لا سبيل إلى يقين مطلق حول حقيقة العالم.
هذه الفكرة تجعله قريباً
من خط الشك الفلسفي الذي سيظهر لاحقاً مع بيرون والمدارس السفسطائية، بل وتُذكِّرنا
أيضاً بالفرضيات الحديثة لدى ديكارت حول “حلمية” الواقع، أو حتى بمقولات العصر الرقمي
عن العالم كـ"محاكاة". لقد كان أنكسارخس ينبه إلى حدود الحواس وإلى هشاشة
التجربة الإنسانية أمام خداع الصور.
أما في مجال الأخلاق،
فقد ذهب أنكسارخس إلى أن القيم مثل الخير والشر، والعدل والظلم، ليست خصائص أصيلة في
الأشياء، بل هي أوهام بشرية أو اتفاقات اجتماعية. الأشياء في ذاتها لا تحمل قيمة مطلقة،
وإنما تُنسب إليها الصفات من خلال نظرتنا إليها. ومن هنا تنشأ حالة من اللامبالاة (adiaphoria) أمام العالم، حيث يصبح الفيلسوف حراً من أسر
الأحكام المسبقة، لا يتأثر بالمدح أو الذم، بالغنى أو الفقر.
لكن هذه اللامبالاة
لم تدفعه إلى الانسحاب أو العزلة، على عكس ما نجده عند بيرون، بل ظل منخرطاً في الحياة
العامة، مصاحباً للملوك ومشاركاً في الفعل السياسي والعسكري. كان يرى أن الحكمة الحقيقية
تكمن في اقتناص اللحظة المناسبة (kairos)،
أي القدرة على التصرف في الزمن الملائم من دون أوهام عن قيمة مطلقة للأفعال.
تأثر أنكسارخس بمدرسة
ديموقريطس الذرية، التي فرّقت بين “الصفات الأولية” للأشياء كالصلابة والامتداد، وبين
الصفات الثانوية مثل الطعم واللون والرائحة التي هي مجرد انطباعات فينا. وبذلك وجد
أرضية فلسفية تسمح له بإنكار إمكانية الوصول إلى حقيقة مطلقة عبر الحواس. غير أنّه،
بخلاف بيرون، لم يلتزم بالصمت أو بالانسحاب الكامل، بل سعى إلى التوفيق بين الشك العقلي
والمشاركة العملية في الحياة.
تبقى مشكلة أنكسارخس
أن سيرته اختلطت بالأساطير والأخبار الطريفة، حتى إن بعض الروايات تحدثت عن نهايته
المأساوية بطريقة أقرب إلى القصص التربوية منها إلى الحقيقة التاريخية. لذلك فإن إعادة
بناء فلسفته تتطلب حذراً، إذ لا يمكن أن نأخذ كل ما نقل عنه على أنه فكر صافي. ومع
ذلك، فإن مجرّد حضور اسمه في تقاليد متعددة يكشف عن أثره في تشكيل بدايات التفكير الشكي
والأخلاق اللامبالية.
خاتمة
يقدّم أنكسارخس صورة
للفيلسوف الذي يجمع بين الشك المعرفي والتحرر الأخلاقي، بين النظر إلى العالم كصورة
قد تكون خادعة وبين العيش فيه من غير أوهام عن قيمة مطلقة. إنّه نموذج للتوازن الصعب
بين الانغماس في الحياة والوقوف على مسافة منها، بين المشاركة الفعلية والانسحاب الداخلي.
وربما في هذا التناقض تكمن فرادته، إذ جسّد فكرة أن الحرية ليست في اعتزال العالم،
بل في التحرر من أوهامه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق