تُعتبر رواية "ليل بلا نهاية" (Endless Night)، الصادرة سنة 1967، واحدة من أكثر أعمال أغاثا كريستي تميزًا وخروجًا عن المألوف في مسيرتها الإبداعية. فعلى عكس رواياتها الكلاسيكية التي عُرفت بشخصياتها الشهيرة مثل بوارو أو الآنسة ماربل، نجد أنفسنا هنا أمام عمل يندرج ضمن الأدب النفسي المظلم، حيث يتداخل الغموض بالقدر، والرغبة بالهاوية.
تُروى الأحداث بضمير المتكلم على لسان الشاب مايكل "مايك" روجرز، وهو رجل محدود الإمكانيات لكنه يعيش على أحلام كبرى. يقع في حب وريثة أمريكية ثرية تُدعى إيلي غوتيمان، ويقرران معًا تشييد بيت أحلامهما على أرض بريطانية تُعرف باسم Gypsy’s Acre أو "أرض الغجر"، وهي قطعة أرض تحيط بها أساطير قديمة وتحذيرات من لعنة غامضة. يحذرهما سكان المنطقة، خصوصًا امرأة غجرية، من أن المكوث في هذا المكان سيجلب مأساة لا محالة.
الرواية مشبعة بجو
خانق: الأرض الملعونة، البيت المنعزل، التنبؤات المشؤومة. لكنها قبل كل شيء عمل نفسي
بالغ العمق. تسائل كريستي عبر السرد: هل نحن أسرى لقدَر محتوم؟ أم أن الطمع والأنانية
والشغف المَرَضي هي التي تُحوِّل الحلم إلى كابوس؟ الحب في هذه الرواية ليس خلاصًا،
بل يتحول إلى قوة مدمّرة، أشبه بنار تلتهم أصحابها من الداخل.
اعتمدت كريستي على
صوت الراوي العاطفي والغامض لتبني حبكة مضللة. فالسرد على لسان مايك يجعل القارئ يتماهى
مع طموحاته وأحلامه، لكنه في الوقت نفسه يزرع بذور الشك في دوافعه. شيئًا فشيئًا، تنكشف
الشقوق في شخصية الراوي، ويدرك القارئ أن الخطر الحقيقي قد لا يكون في لعنة قديمة أو
في تحذيرات غجرية، بل في أعماق النفس البشرية نفسها.
وكما اعتاد قراء كريستي،
تأتي النهاية محمَّلة بالانعطافة الصادمة. فالمصدر الحقيقي لـ"الليل الذي لا ينتهي"
ليس القدر ولا الأساطير، بل الطبيعة البشرية حين تُساق خلف الجشع والغيرة والرغبة في
السيطرة. هذه النهاية المأساوية تُحوِّل الرواية إلى درس أخلاقي عميق: أحيانًا يكون
العدو الأكبر هو الداخل، لا الخارج.
أحدثت "ليل بلا
نهاية" عند صدورها صدمة لدى القراء الذين انتظروا من كريستي حبكة بوليسية تقليدية.
لكنها مع مرور الوقت نالت مكانة خاصة باعتبارها واحدة من أكثر أعمالها نضجًا وجرأة.
فهي لا تُبرِز فقط براعتها في صياغة التشويق، بل تُثبت قدرتها على الغوص في أعماق النفس
البشرية، وتحويلها إلى مسرح تراجيدي تسوده الهواجس والخيانات والقدر القاتم.
بهذا المعنى، تُعتبر
الرواية شهادة على مرونة أغاثا كريستي الإبداعية، وقدرتها على التجدد وتجاوز القوالب
المعتادة. إنها نصٌّ يخلط بين الرومانسية المظلمة والتحليل النفسي والدراما القاتمة،
مما يجعلها بحق عملاً أدبياً مختلفًا يظل محفورًا في ذاكرة القراء مثل ليلٍ بلا نهاية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق