لم يعد المشهد الإعلامي حكراً على الصحف الورقية أو القنوات التلفزيونية الكبرى التي تصوغ الرأي العام عبر غرف تحريرها التقليدية. فخلال السنوات الأخيرة، برزت منصة رقمية جديدة تُدعى "سبستاك" لتعيد صياغة قواعد اللعبة، وتفتح الباب أمام تجربة إعلامية مختلفة تقوم على العلاقة المباشرة بين الكاتب والقارئ، بعيداً عن وساطة المؤسسات الكبرى.
تقوم "سبستاك" على نموذج بسيط لكنه فعّال: الكاتب أو الصحفي ينشئ نشرة بريدية رقمية، يحدد لها موضوعاً أو خطاً فكرياً خاصاً به، ثم يطرحها على الجمهور مقابل اشتراك شهري يبدأ من بضع دولارات. ومن خلال اقتطاع نسبة مئوية محدودة (حوالي 10%)، تتيح المنصة للكاتب الاستفادة من عائد مالي مباشر، يحرره من حسابات الإعلانات التجارية وضغوط الممولين.
هذا النموذج منح فرصة لعدد كبير من الصحفيين والمفكرين المستقلين لتجريب خطاب أكثر حرية، وللاقتراب من القراء بطريقة شخصية وفردية. بعض هؤلاء تمكنوا من تحقيق نجاحات مبهرة، حيث تجاوزت أعداد المشتركين عشرات الآلاف، مما وفر لهم دخلاً يعادل أو يفوق ما كانوا يحصلون عليه من المؤسسات الإعلامية.
قد يُنظر إلى "سبستاك" بوصفها تهديداً مباشراً لوسائل الإعلام التقليدية. غير أن الأمر أعقد من مجرد منافسة على الجمهور. فالمؤسسات الإعلامية لطالما لعبت دوراً محورياً في غربلة الأخبار وصياغة الأجندة العامة، بينما تركز "سبستاك" على تقديم محتوى شخصي وفردي موجه إلى شريحة محددة من القراء.
هنا يظهر السؤال الجوهري: هل يعزز هذا النموذج التعددية الإعلامية ويمنح القراء خيارات أوسع، أم أنه يساهم في تفتيت المجال العام وتحويله إلى جزر معزولة من القراء، حيث يكتفي كل منهم بمتابعة الأصوات التي تشبهه وتؤكد قناعاته؟
الميزة الأكبر لـ"سبستاك" تكمن في الاستقلالية: الكاتب لا يخضع لخط سياسي مفروض، ولا لمحرر يحدد له العناوين أو الزوايا، بل يكتب وفق رؤيته وقناعته. لكن هذه الحرية تحمل أيضاً مخاطر واضحة، أبرزها الانعزال في "فقاعات معرفية" لا تتقاطع فيما بينها.
فبينما يشكل الإعلام التقليدي – رغم كل عيوبه – مساحة مشتركة للجدل والنقاش العام، قد تتحول المنصات الفردية إلى أدوات تزيد من حدة الاستقطاب، وتجعل من الصعب إيجاد أرضية مشتركة بين التيارات المختلفة.
في العالم العربي، لا تزال تجربة "سبستاك" محدودة، لكن إمكاناتها تبدو واسعة. فالكثير من الكتّاب العرب يشكون من ضعف المؤسسات الإعلامية أو تبعيتها للسلطة والمال، ومن غياب منصات تتيح لهم الاستقلال. وهنا يظهر النموذج الجديد كفرصة حقيقية لتجديد العلاقة بين القارئ العربي والمثقف أو الصحفي.
لكن هذه الفرصة مشروطة بعاملين أساسيين: أولاً، استعداد الجمهور العربي لدفع مقابل مادي لقاء محتوى رقمي نوعي، وهو أمر لم يترسخ بعد في ثقافة الاستهلاك الإعلامي. وثانياً، توفير البيئة التقنية والقانونية التي تحمي حرية التعبير وتضمن استمرار هذا النموذج بعيداً عن الرقابة أو التضييق.
من غير المرجح أن تقضي "سبستاك" على الإعلام التقليدي، لكنها بالتأكيد ستجبره على التكيف. فمن المتوقع أن نشهد مزيداً من التجارب الهجينة، حيث يحافظ الصحفي على موقعه في وسيلة إعلام كبرى، ويطلق في الوقت ذاته نشرة شخصية عبر المنصة. هذا التداخل قد يخلق ديناميات جديدة تجمع بين ثقل المؤسسات وحرية الأفراد.
في نهاية المطاف، تعكس تجربة "سبستاك" تحوّلاً عميقاً في علاقتنا بالمعلومة. فالقارئ لم يعد مجرد متلقٍ سلبي، بل أصبح شريكاً مباشراً في تمويل الإنتاج الإعلامي وصياغة مضمونه. وبينما يطرح هذا النموذج أسئلة جدية حول مستقبل المجال العام ووحدة النقاش المشترك، فإنه يفتح في الوقت ذاته آفاقاً رحبة لولادة جيل جديد من الصحافة الحرة والمستقلة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق