لم تعد الحكاية تُكتب فقط في صفحات الكتب أو تتردد في المقاهي والمسارح والجرائد، بل انتقلت إلى فضاءات رقمية تعيد تشكيل علاقتنا بالزمن والذاكرة واللغة. شبكات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فيسبوك وإكس، لم تعد مجرد أدوات للتواصل السريع أو قنوات لتبادل الأخبار، بل غدت، ببطء ودون أن نشعر، عوالم سردية متكاملة.
أحياناً، وأنا أتنقل بين الجدران الرقمية والأزمنة المتقطعة للمنشورات، أشعر أنني أمام رواية كبرى تُكتب بالتوازي من ملايين الأقلام. كل "منشور" يصبح سطراً في نص جماعي، وكل "تعليق" أو "إعادة تغريدة" يضيف طبقة جديدة من التأويل. بهذا المعنى، يمكن القول إننا أمام ملحمة رقمية لا بطل واحد لها، وإنما تتشكل من ملايين الأبطال والقراء في آن واحد. يشبه الأمر ما أشار إليه أمبرتو إيكو في حديثه عن "النص المفتوح"، حيث يصبح القارئ شريكاً أساسياً في إكمال المعنى.
ما يميز هذه البيئات
الرقمية هو قدرتها على خلق "فضاءات سردية تفاعلية"، حيث لا يعود المتلقي
مجرد قارئ سلبي، بل يتحول إلى كاتب مشارك في إنتاج النص. هنا أستحضر ما كتبه هنري جنكينز
في
Convergence Culture (2006) عن "الثقافة التشاركية"، إذ تتوزع ملكية السرد بين المرسِل
والمتلقي، وينهار الحاجز الذي كان يفصل بين الكاتب والجمهور. في تويتر مثلاً، نجد أن
قصصاً كبرى عن الثورات أو الكوارث الطبيعية أو حتى مباريات كرة القدم تُبنى عبر آلاف
التغريدات القصيرة التي تتجاور لتخلق مشهداً حكائياً كثيفاً.
وفي المقابل، يقدم
فيسبوك شكلاً آخر من السردية، أقرب إلى "دفتر يوميات علني". فالمستخدم يكتب
حالاته اليومية، يعرض صوره الخاصة، يشارك لحظاته الحميمة أو المأساوية، لكنه يفعل ذلك
أمام جمهور متنوع لا يعرفه أغلب الأحيان. وهكذا يولد نص جديد، نص اعترافي لكنه جماعي
أيضاً، يجمع بين ذاتية الكاتب وسياقات الجماعة التي تتفاعل معه. لا يمكنني هنا إلا
أن أتذكر أعمال فيليب لوجون حول "ميثاق السيرة الذاتية"، الذي ينهار في هذه
الحالة لأن القارئ ليس قارئاً فردياً بل حشداً غير متجانس من "الأصدقاء الافتراضيين".
لكن هذه السرديات الرقمية
ليست بريئة، فهي تُصاغ وتُعاد صياغتها داخل منظومات خوارزمية تحدد من يرى ماذا ومتى.
كما أشارت شوشانا زوبوف في Surveillance Capitalism (2019) "الرأسمالية المراقبة" فإن الاقتصاد
الرقمي القائم على البيانات يعيد تشكيل حتى السرد الشخصي، إذ يصبح كل نص مكتوب مادة
للتحليل والاستخراج والتوجيه. المنشور الذي كتبته بنية مشاركة شعور ما قد يتحول إلى
أداة لتسويق منتج أو لاستهداف سياسي. هكذا يتحول السرد، في جزء منه، إلى ممارسة خاضعة
لقوة غير مرئية، قوة الخوارزميات والشركات العملاقة.
المغرب والعالم العربي:
الحكاية في مرآة الواقع
لا يمكن الحديث عن
سرديات فيسبوك وتويتر دون التوقف عند السياقات العربية والمغربية تحديداً. فمنذ بداية
"الربيع العربي"، شهدنا كيف تحولت هذه المنصات إلى دفاتر ثورية تكتب لحظة
بلحظة. في تونس، كان هاشتاغ #sidibouzid بداية لكتابة جماعية عن حدث محلي تحول إلى شرارة ثورة. وفي مصر، أصبح
ميدان التحرير نصاً رقمياً متجدداً، تُكتب تفاصيله على تويتر وفيسبوك أسرع من قدرة
الصحافة التقليدية على اللحاق بها.
أما في المغرب، فقد
أخذت هذه الحكايات الرقمية أبعاداً متعددة. في حركة 20 فبراير (2011)، شكل فيسبوك المنصة
المركزية لنشر الدعوات والبيانات والفيديوهات التي توثق المظاهرات. لقد تحولت الصفحات
إلى "جرائد رقمية" يومية، وفي الوقت نفسه إلى أرشيف سردي حي يوثق لحظة احتجاجية
حاسمة في تاريخ المغرب الحديث. وبعيداً عن السياسة، شهدنا أيضاً كيف تحولت أحداث اجتماعية
كبرى، مثل حادثة "قطار بوقنادل" (2018) أو "زلزال الحوز"
(2023)، إلى نصوص جماعية تكتبها الجماعة الرقمية لحظة بلحظة: شهادات، صور، مقاطع فيديو،
دعوات للتبرع، صرخات ألم، ونكات سوداء تحمل طاقة مقاومة.
لقد ساهمت هذه النصوص
الرقمية في إعادة تشكيل علاقة المواطن المغربي بالفضاء العمومي. فالذي كان يُقصى من
الصحافة الرسمية أو لا يجد مكاناً لصوته في التلفزيون، وجد في فيسبوك وتويتر مساحة
مفتوحة ليكتب حكايته. في هذا السياق، يمكن أن نفهم كيف ظهرت صفحات مثل "فيسبوكيات
مغربية" أو "تغريدات مغربية" كأشكال سردية بديلة، تحولت إلى أرشيف حي
للذاكرة الشعبية، حيث السياسة تختلط بالكوميديا، واليومي بالاستثنائي.
النصوص المتشظية وبلاغة
الشذرات
الطبيعة المتقطعة لهذه
الحكايات الرقمية قد تبدو عائقاً أمام من يفضل النصوص الكاملة والمتماسكة. لكن، وكما
أشار رولان بارت في شذرات من خطاب في الحب (1977)، فإن الشذرات قادرة على حمل كثافة
دلالية قد تفوق النصوص الطويلة. تغريدة من 280 حرفاً يمكن أن تهز الرأي العام، وصورة
واحدة منشورة على فيسبوك قد تختصر مأساة أمة. المثال الأوضح كان في صورة الطفل السوري
إيلان الكردي (2015) التي اجتاحت الفضاء الرقمي وحولت النقاش العالمي حول قضية اللاجئين.
في المغرب أيضاً، لعبت
صور ومقاطع قصيرة دوراً سردياً ضخماً. مقطع فيديو لشاب يشتكي البطالة أو لامرأة تصرخ
في السوق، يتحول إلى رمز لحالة اجتماعية. هذه النصوص المتشظية تصوغ خطاباً شعبياً جديداً،
قد لا يكون متجانساً لكنه شديد التأثير. إنها نصوص مفتوحة، غير مكتملة، لكنها تحفر
في الذاكرة الجماعية.
التحدي النقدي: كيف
نقرأ هذا الأدب الجديد؟
أمام هذا الفيض من
النصوص الرقمية، أجد نفسي أمام أسئلة نقدية ملحّة: كيف يمكن أن نؤرخ لرواية لا يعرف
أحد بدايتها ولا يمكن التنبؤ بنهايتها؟ كيف نضع معايير نقدية لنص يكتبه الجميع ولا
يملكه أحد؟ هل ينبغي أن نقرأ هذه الحكايات بمنهجيات النقد الأدبي التقليدي، أم علينا
أن نطور أدوات جديدة أكثر مرونة تستوعب الطابع الشبكي والتفاعلي؟
إن ما يواجهنا اليوم
هو شكل من الأدب لم يكتمل اسمه بعد. قد نطلق عليه "الأدب الرقمي الجماعي"
أو "السرد التفاعلي الشبكي"، لكن الأكيد أنه يعكس تحولات عميقة في علاقتنا
بالكتابة والقراءة والذاكرة. فالعالم لم يعد يُروى من منظور المؤلف الفرد فقط، بل من
منظور الجماعة التي تكتب ذاتها في الزمن الحقيقي.
خاتمة
لقد غدت فيسبوك وتويتر
مختبرات كبرى للحكاية، مختبرات ضاجّة وفوضوية، لكنها تحمل في طياتها إمكانات غير مسبوقة.
بين اليومي والاستثنائي، بين الاعتراف الفردي والصرخة الجماعية، وبين الشعرية الكثيفة
والبراغماتية الخوارزمية، يتشكل نص جديد. نص لا يمكن أن يُختزل في صفحة أو كتاب، بل
هو نهر لا يتوقف عن التدفق، يحمل في طياته أصوات الملايين. إن مسؤوليتنا ككتّاب وباحثين
وقراء أن نفكر في هذا النص، أن نفكك آلياته، وأن نمنحه مكانته كجزء أصيل من أدب هذا
العصر.
مراجع للاستزادة
Henry Jenkins,
Convergence Culture: Where Old and New Media Collide, 2006.
Shoshana Zuboff,
The Age of Surveillance Capitalism, 2019.
Roland Barthes,
Fragments d’un discours amoureux, 1977.
Manuel Castells,
Networks of Outrage and Hope: Social Movements in the Internet Age, 2012.
Umberto Eco, The
Open Work, 1989.
دراسات عن حركة 20
فبراير في المغرب، منشورة في مجلات Revue des Mondes Musulmans et de la Méditerranée وJournal of North African Studies.
0 التعليقات:
إرسال تعليق