الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 07، 2025

جيل بين الوعي والعزلة وسؤال الذكاء الاصطناعي: عبده حقي


في كل مرة أفتح فيها هاتفي الذكي أو أقرأ خبراً عن آخر التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي، أشعر وكأنني أمام قوة مزدوجة؛ قوة قادرة على تعميق وعينا بما يحيط بنا، وفي الوقت نفسه تهدد بجرّنا نحو عزلة رقمية شبيهة بجدران غير مرئية. لقد أصبح السؤال ملحاً: هل يصنع الذكاء الاصطناعي جيلاً أكثر وعياً، أم جيلاً أكثر انعزالاً؟

إن الذكاء الاصطناعي، بما يتيحه من أدوات تحليلية وخوارزميات توصية، يمنح الأجيال الجديدة إمكانيات غير مسبوقة لفهم العالم. يكفي أن نذكر ما أشار إليه شوشانا زوبوف في كتابها رأسمالية المراقبة (2019)، حيث أبرزت أن البيانات الضخمة لم تعد مجرد رقمية باردة، بل صارت مادة لصناعة "خرائط وعي" دقيقة عن سلوك الإنسان وتطلعاته. فجيل اليوم يمكنه الوصول إلى المعرفة بضغطة زر، يقرأ عن أحدث الأبحاث في الطب أو الفلسفة، ويطالع خبر سقوط حكومة في بلد بعيد كما لو أنه حدث في عتبة بيته.

لكن المفارقة أن هذه الوفرة المعرفية تشبه أحياناً فيضاً جارفا يغرق صاحبه بدل أن يروي عطشه. فقد حذّر الفيلسوف الكوري-الألماني بيونغ-تشول هان في مجتمع الشفافية من أن الإفراط في تدفق المعلومات لا يعني بالضرورة وعياً أعمق، بل قد يقود إلى حالة من "التشبع السطحي"، حيث يغدو كل شيء متاحاً وسهل المنال، لكنه بلا أثر عميق. إن شاباً يقضي ساعات في التفاعل مع الذكاء الاصطناعي قد يبدو أكثر اطلاعاً من أي وقت مضى، لكنه قد يكتشف في لحظة صمت أنه يفتقد مهارة الإنصات لنفسه وللآخرين.

ولعل التجربة العربية تقدم أمثلة جلية على هذا التوتر. في المغرب، مثلاً، انتشرت تطبيقات الذكاء الاصطناعي بين طلبة الجامعات بشكل متسارع منذ عام 2023، حيث باتت تُستخدم في إعداد بحوث أو تلخيص مقالات. بعض الأساتذة الجامعيين، كما أوردت هسبريس في تقرير حديث، يرون في ذلك وسيلة لتسريع الوعي النقدي إذا ما استُخدمت بذكاء، بينما يحذّر آخرون من أنها تختصر المسافة بشكل يُفقد الطالب لذة الجهد الذهني وعمق التفكير. المشهد هنا يذكّرني بتلميذ يقفز على الدرجات للوصول إلى الطابق الأخير، لكنه يصل متعباً وغير مدرك لتفاصيل ما تجاوزه.

العزلة الرقمية ليست وهماً؛ بل واقع يعيش فيه الكثير من الشباب. تقارير اليونسكو حول الشباب والرقمنة (2022) أشارت إلى أن الجيل الحالي يقضي أكثر من سبع ساعات يومياً أمام الشاشات، ما يقلص من فرص الحوار المباشر والتجارب الإنسانية المشتركة. الذكاء الاصطناعي، عبر غرف الدردشة أو المساعدات الشخصية، قد يخلق وهم الصداقة أو الحميمية، لكنه يظل في نهاية المطاف علاقة مع آلة، لا مع بشر يتشاركون المشاعر والانفعالات. هنا تتجلى خطورة العزلة التي لا يُرى جدارها، لكنها تُشعر المرء أنه محاصر في غرفة افتراضية واسعة.

ومع ذلك، لا أستطيع أن أتجاهل الوجه الآخر للعملة. الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف حدود الوعي الجمعي. ثمة مبادرات عالمية تستخدمه في الدفاع عن حقوق الإنسان، مثل مشروعات أرشفة الانتهاكات في مناطق النزاع عبر تقنيات التعرف على الصور والفيديوهات. هذه التطبيقات تُكسب الجيل الجديد وعياً أخلاقياً وسياسياً لم يكن متاحاً من قبل. في العالم العربي، نذكر مبادرة الباحثين في بيروت الذين اعتمدوا خوارزميات لتحليل الأخبار المضللة في الإعلام العربي، ما ساعد الشباب على التمييز بين الحقيقة والدعاية.

ما بين هذا الوعي المتسع والعزلة المتنامية، أجد نفسي متأرجحاً كما لو كنت أمشي على حبل مشدود. كل خطوة قد تقودني نحو فضاء أرحب من الفهم، أو نحو هاوية الانقطاع عن الواقع الاجتماعي. إن المسألة ليست في الذكاء الاصطناعي بحد ذاته، بل في كيفية توظيفه. فالأداة، كما يعلّمنا التاريخ، تحمل دائماً بذور الخير والشر معاً.

أستحضر هنا عبارة الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري الذي شدد في كتاب تكوين العقل العربي على أن "المعرفة لا تثمر إلا إذا ارتبطت بنقد العقل". إن الذكاء الاصطناعي يمنحنا معرفة، لكنه لا يمنحنا بالضرورة نقداً. وهذا النقد هو الذي يحمي الجيل الجديد من أن يتحول إلى مجرد متلقٍ سلبي في عزلة رقمية.

في النهاية، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي لا يبني جيلاً أكثر وعياً ولا أكثر عزلة بشكل مطلق، بل يضعنا أمام مفترق طرق. إن كان الجيل قادراً على دمج هذه الأدوات في تجربة إنسانية حية، فإنه سيصبح أكثر وعياً بذاته وبالعالم. أما إذا انغلق في غرف الصدى الرقمية، فلن يخرج إلا بجيل يعرف كل شيء عن العالم الافتراضي، لكنه يجهل تفاصيل الحياة الواقعية. وهنا يكمن التحدي الأكبر: أن نصنع من الذكاء الاصطناعي جسراً نحو الوعي، لا سجناً واسع الجدران نحو العزلة.

0 التعليقات: