الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 07، 2025

بهجة السخرية وجدية الضحك: الأدب حين يبتسم: عبده حقي


 إنّ الضحك في النصوص الأدبية ليس زخرفًا لغويًا ولا استراحة بين فصلين، بل هو كما يشبهه الفيلسوف هنري برغسون في كتابه Le Rire آلية اجتماعية وأداة إصلاحية، تجعل المجتمع يواجه أعطابه من خلال ابتسامة ساخرة أكثر فاعلية من خطاب مباشر جاد.

في التراث العربي الكلاسيكي، لم يكن الأدب الساخر أو الفكاهي غريبًا عن الأذن أو العين. المقامات التي كتبها بديع الزمان الهمذاني والحريري تعدّ نموذجًا مبكرًا للنص الذي يخلط بين السرد والحيلة والدعابة. كان بطل المقامة في الغالب شخصية مخادعة، يتلاعب بالكلمات والظروف ليحقق مصلحة آنية. لكن خلف هذه الطرافة كانت تختبئ قراءة لواقع اجتماعي يضجّ بالمفارقات الطبقية والدينية والسياسية. وفي كتب البخلاء للجاحظ، نكتشف كيف أن الضحك يتحول إلى مرآة تكشف عن بخل الإنسان وتناقضاته النفسية. الجاحظ لم يكن يسرد طرائف عبثية، بل كان يمارس علم اجتماع مبكر عبر الفكاهة.

حين أعبر إلى النصوص الغربية، أجد أنّ كتاب Gargantua et Pantagruel لفرانسوا رابليه كان منعطفًا حقيقيًا في فهم علاقة الأدب بالضحك. لم تكن سخريته عبثًا، بل أداة لهدم صرامة الكنيسة والخطابات الميتافيزيقية التي كبّلت أوروبا في القرون الوسطى. جاء باختين بعد قرون ليكشف في كتابه Rabelais and His World أنّ الكرنفال الشعبي كان مجالًا لتحرير الجسد واللغة معًا. وفي رأيي، هذه الفكرة لا تخص أوروبا وحدها، بل يمكن أن نجد أصداءها في الثقافة العربية أيضًا حيث الأسواق والمواسم الشعبية امتلأت بالقصاصين والحكواتية الذين يوظفون الدعابة لتحدي الرسمي والمقدس.

في المغرب، ظل الأدب الساخر حاضراً في مستويات متعددة، بدءًا من الأمثال الشعبية التي تختزن حكمة ساخرة، وصولًا إلى نصوص روائية وقصصية معاصرة. لا أنسى مثلًا المهدي ولعلو في كتاباته الساخرة عن الحياة السياسية، أو مقالات محمد شكري التي لم تخلُ من لمسة تهكمية تكشف مأساة الهامش في طنجة. حتى في رواية الخبز الحافي، رغم سوداوية السرد، تومض لحظات ضحك مريرة تجعل القارئ يبتسم وهو يدرك حجم البؤس.

أما في المسرح المغربي، فقد رسّخ الطيب الصديقي وأحمد الطيب لعلج تقليدًا طريفًا في الكتابة المسرحية الساخرة. مسرحيات مثل سيدي ياسين في الطريق أو الحراز اعتمدت على المفارقات الكوميدية، لكنها كانت في العمق قراءة نقدية للبنية الاجتماعية والسياسية. وفي السنوات الأخيرة، ظهرت موجة من الكتابة الساخرة في الصحافة الإلكترونية والكتب، مثل نصوص سعيد بنكراد التي تتناول الثقافة الشعبية برؤية ساخرة، أو مقالات أحمد عصيد التي تمزج بين التحليل الفكري والدعابة اللاذعة.

التجربة المصرية واللبنانية: من يوسف إدريس إلى زياد الرحباني

حين أفتح صفحات الأدب المصري، أجد أن يوسف إدريس في قصصه القصيرة أحيانًا يترك المجال للكوميديا السوداء كي تنفجر وسط المأساة. أما محمود السعدني فقد جعل من الفكاهة أسلوبًا صحفيًا قائمًا بذاته، فكان يحلل الوضع السياسي من خلال نكتة بسيطة لكنها أكثر وقعًا من خطاب سياسي مطوّل. كذلك إبراهيم عيسى في مقالاته جمع بين السخرية والتحليل، ليُظهر كيف يمكن للكلمة المبتسمة أن تكون سلاحًا في مواجهة الاستبداد.

أما في لبنان، فالتجربة مع زياد الرحباني تمثل ذروة المزج بين الأدب والفن الساخر. نصوصه المسرحية مثل فيلم أميركي طويل أو بالنسبة لبكرا شو؟ جسّدت كيف يمكن للضحك أن يكون موقفًا سياسيًا. زياد لم يكتب للمسرح وحده، بل خلق خطابًا ساخرًا في الأغنية والمقالة، لدرجة أنّ بعض نصوصه تُدرَس اليوم بوصفها نموذجًا للأدب السياسي الساخر.

الأدب الفلسطيني والسخرية المقاومة

في فلسطين، كانت الفكاهة جزءًا من أدب المقاومة. إميل حبيبي في روايته المتشائل أعطى نموذجًا رائعًا للسخرية السوداء التي تعكس مأساة الوجود الفلسطيني تحت الاحتلال. بطل الرواية يعيش مفارقات مستمرة بين التشاؤم والتفاؤل، لكنه في النهاية يضحك على نفسه وعلى واقعه. إنّه الضحك الذي يتحول إلى سلاح بوجه القمع، مثلما تحولت النكتة الفلسطينية إلى وسيلة لمقاومة آلة الحرب.

التحولات الرقمية: الأدب الساخر على المنصات

لا يمكن أن أغفل أثر التحول الرقمي على الأدب الساخر. فاليوم، نصوص قصيرة على فيسبوك أو تويتر قد تكتسب قوة أدبية حين تتحول إلى كوميديا لاذعة. ما يكتبه الشباب المغربي أو المصري على هذه المنصات يعكس روح زمن يعيش على وقع الأزمات الاقتصادية والسياسية. هناك مثلًا تجربة بعض المدونات المغربية التي جمعت منشوراتها في كتب مطبوعة، مثل تجربة يوسف زيدان في مصر أو مدونات مراكش التي تمزج السخرية مع النقد الثقافي. لقد أصبح النص الرقمي الساخر امتدادًا للأدب الكلاسيكي، لكنه محمّل بسرعة اللحظة وحرارة الواقع.

الضحك بين الفلسفة والسياسة

أكاد أقتنع أن الضحك في الأدب هو شكل من أشكال التفكير السياسي والفلسفي. فالابتسامة هنا ليست محايدة، بل تحمل موقفًا. كما أشار ميخائيل باختين، الضحك الشعبي يفتح المجال لإعادة توزيع السلطة الرمزية. وحتى في الأدب العربي المعاصر، يمكن أن نلمس ذلك في كتابات علاء الأسواني أو أمين معلوف التي لا تخلو من لحظات تهكمية، وإن كانت مغلّفة بالجدية.

خلاصة: الأدب حين يضحك لا يفقد وقاره

لقد أدركت أنّ الأدب الساخر أو الأدب الذي يوظّف الفكاهة لا يقل شأنًا عن الأدب التراجيدي. بل أحيانًا، يكون أكثر عمقًا لأنه يستدرج القارئ عبر بوابة الضحك ليدخله إلى صميم المأساة. في المغرب والعالم العربي، تتكاثر الأمثلة التي تثبت أنّ الأدب المبتسم ليس أدبًا ثانويًا، بل هو رافعة أساسية لفهم المجتمع والسياسة والوجود. إنّه أدب يمارس نقده بخفة، ويضع القارئ أمام مرايا متكسرة تعكس الحقيقة في صور متعددة.

هكذا أكتب وأنا على يقين أنّ الضحك في الأدب ليس صدفة ولا ملهاة، بل هو استراتيجية جمالية وفكرية. هو السلاح الناعم الذي يكشف الأعماق. فحين يبتسم الأدب، يبتسم معه العالم، لا ليهرب من جراحه، بل ليواجهها بوعي أكبر وقدرة أشمل على التحمل.

0 التعليقات: