الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، سبتمبر 23، 2025

الفلسفة الحكيمة الإفريقية: بين الإرث الشفهي وتحدي المركزية الغربية: ترجمة عبده حقي


يظل سؤال الفلسفة الإفريقية من أعقد الأسئلة التي شغلت الباحثين في النصف الثاني من القرن العشرين. فمنذ أن صرّح الفيلسوف الألماني هيغل في محاضراته حول "فلسفة التاريخ" بأن إفريقيا "خارج التاريخ"، وأن سكانها "يفتقدون العقلانية الفلسفية" ويعيشون في مرحلة "ما قبل الروح"، ظل هذا الحكم الاستعماري بمثابة عبء ثقيل على التفكير الإفريقي. فقد أنكر هيغل على القارة وجود فلسفة بالمعنى الأكاديمي، معتبراً أن الفكر العقلاني لم يولد إلا في اليونان. هذا الادعاء فتح باباً واسعاً أمام ردود فلسفية متعددة، كان أبرزها مشروع الفلسفة الحكيمة الإفريقية (African Sage Philosophy) الذي قاده الباحث الكيني هنري أوروكا أوريوكا (Henry Odera Oruka).

إن هذا المشروع سعى إلى قلب المعادلة: بدلاً من انتظار "اعتراف الغرب" بوجود فلسفة مكتوبة في إفريقيا، عمل أوريوكا على إبراز أن الحكمة الفلسفية موجودة بالفعل في صلب الثقافة الإفريقية الشفهية، وأنها ليست حكراً على النصوص أو الجامعات.

سياق النشأة: بين الاستعمار والبحث عن الأصالة

بعد الاستقلال السياسي لدول إفريقيا في الخمسينيات والستينيات، برزت الحاجة إلى استقلال فكري وثقافي. وهنا ظهرت تيارات عدة في الفلسفة الإفريقية:

الفلسفة الإثنوفلسفية (Ethnophilosophy): التي سعت إلى استخراج الرؤية الكونية من الأمثال والأساطير والديانات الإفريقية.

الفلسفة القومية (Nationalist Ideological Philosophy): التي ربطت الفلسفة بالمشروع السياسي لبناء الدولة بعد الاستعمار.

الفلسفة المهنية (Professional Philosophy): التي اعتمدت على مناهج التحليل الغربي وتبنّت مقاييسه الأكاديمية.

وسط هذا المشهد، جاء مشروع الفلسفة الحكيمة ليؤكد أن الفلسفة الإفريقية لا تحتاج إلى تبرير بوسائل خارجية، فهي موجودة في الممارسات اليومية والحوار الشفهي لدى حكماء المجتمعات الإفريقية.

مفهوم الفلسفة الحكيمة

الفلسفة الحكيمة هي تيار فكري يرى أن الحكمة الشعبية النقدية التي يصوغها بعض الأفراد المتميزين في المجتمعات الإفريقية تمثل شكلاً أصيلاً من أشكال الفلسفة.

الحكيم (Sage): ليس مجرد شخص يحفظ التقاليد أو يكرر الأمثال، بل هو من يُعرف بالقدرة على التفكير النقدي وتقديم رؤى عقلانية جديدة.

أوريوكا ميّز بين نوعين من الحكماء:

الحكيم الشعبي (Folk Sage): يكرر المأثور ويعيد إنتاج الموروث بلا نقد.

الحكيم الفلسفي (Philosophic Sage): يمارس نقداً عقلياً، ويتجاوز المألوف، ويبرر أفكاره بالحجة والبرهان.

من هنا، تصبح الفلسفة الحكيمة جسراً بين الشفوية الإفريقية وبين الفلسفة الأكاديمية المكتوبة، إذ تُظهر أن العقل الفلسفي ليس حكراً على النصوص بل هو قدرة إنسانية عامة.

المنهج: من الشفوي إلى الفلسفي

اعتمد أوريوكا على منهج ميداني جديد في الفلسفة:

قام هو وتلاميذه بإجراء مقابلات مطولة مع حكماء محليين في كينيا، لتسجيل آرائهم حول قضايا الوجود، الأخلاق، العدالة، الموت، والدين.

ثم جُمعت هذه الأقوال، وصُنفت، وحُللت كمواد فلسفية قابلة للنقاش الأكاديمي.

بهذا المعنى، كان مشروع الفلسفة الحكيمة أشبه بعمل أنثروبولوجي-فلسفي، لكنه تحوّل إلى مرآة تكشف عن عمق التفكير الفلسفي الكامن في الثقافة الإفريقية.

الأبعاد الفلسفية

تكمن أهمية الفلسفة الحكيمة في عدة مستويات:

التأسيس الأنطولوجي: عبر إبراز أن وجود الفلسفة لا يتوقف على الكتابة، بل إن العقل النقدي متجذر في كل الثقافات.

البعد السياسي: المشروع شكّل ردّاً مباشراً على مقولات هيغل التي أخرجت إفريقيا من التاريخ والعقلانية.

البعد الإبستمولوجي: أعاد الاعتبار للشفهية كمصدر للمعرفة الفلسفية، في مقابل التمركز الغربي حول النص المكتوب.

البعد الأخلاقي والاجتماعي: أظهر أن الحكيم في المجتمعات الإفريقية ليس مجرد مفكر منعزل، بل هو فاعل اجتماعي له دور في حل النزاعات وتوجيه السلوك الجماعي.

الفلسفة الحكيمة في مواجهة هيغل

حين قال هيغل إن إفريقيا "خارج التاريخ"، كان ينطلق من مركزية أوروبية ترى أن التاريخ يبدأ بالكتابة، وأن العقلانية لا تُتصور إلا داخل إطار الفلسفة الغربية. لكن مشروع الفلسفة الحكيمة برهن أن هذا الطرح ليس سوى انعكاس لهيمنة استعمارية معرفية.

فالحكيم الإفريقي الذي يطور موقفاً عقلانياً من قضايا مثل الموت أو العدالة يمارس نفس العملية الفلسفية التي مارسها سقراط في الحوارات الأفلاطونية.

وإذا كان سقراط لم يكتب فلسفته بل نقلها تلاميذه، فإن الحكماء الأفارقة يمثلون الامتداد نفسه للشفهية الفلسفية.

بهذا المعنى، تصبح الفلسفة الحكيمة تحدياً جوهرياً لمقولة "غياب الفلسفة في إفريقيا"، لأنها تُظهر أن العقل النقدي حاضر في صميم الثقافة الإفريقية، حتى وإن لم يتخذ شكلاً كتابياً مؤسساتياً.

الانتقادات الموجهة للمشروع

لم يسلم هذا الاتجاه من النقد:

هناك من رأى أن تسجيل أقوال الحكماء لا يكفي لاعتبارها فلسفة، لأنها تفتقد النظام المنهجي والتطوير النظري.

آخرون اعتبروا أن المشروع يظل حبيس النظرة الأنثروبولوجية التي تتعامل مع الثقافة الإفريقية كـ"ميدان دراسة"، لا كإبداع فلسفي مستقل.

كما أثير التساؤل: هل الفلسفة الحكيمة مجرد رد فعل على المركزية الغربية، أم أنها مشروع فلسفي متكامل قادر على إنتاج أنساق جديدة؟

ورغم هذه الانتقادات، فإن الفلسفة الحكيمة لا تزال تمثل خطوة تأسيسية في تحرير الفلسفة الإفريقية من قيد "المعيار الغربي".

الأثر في الفلسفة الإفريقية الحديثة

ساهم مشروع أوريوكا في توجيه الفلسفة الإفريقية نحو الاعتراف بالتعددية المعرفية:

فقد مهد الطريق لظهور تيارات أخرى مثل فلسفة ما بعد الاستعمار، والنقد الثقافي الإفريقي، والدراسات النسوية الإفريقية.

كما أعاد الاعتبار لفكرة أن الفلسفة يمكن أن تكون جزءاً من الحياة اليومية، لا نشاطاً نخبوياً منعزلاً.

وفي الجامعات الإفريقية اليوم، أصبحت "الفلسفة الحكيمة" جزءاً من المناهج الدراسية، يتم تناولها جنباً إلى جنب مع الفلسفات الغربية.

خاتمة

تمثل الفلسفة الحكيمة الإفريقية لحظة فارقة في تاريخ الفكر الإنساني. فهي لم تكتفِ بالرد على هيغل ومن تبعه من الفلاسفة الاستعماريين الذين أنكروا على إفريقيا العقلانية والتاريخ، بل أسست لمفهوم جديد للفلسفة يتجاوز الحدود الأكاديمية والكتابية.

لقد أثبت أوريوكا أن الفلسفة ليست حكراً على النصوص ولا على الجامعات، بل هي سلوك عقلي نقدي يمكن أن يمارسه الحكيم الإفريقي في قريته كما يمارسه الفيلسوف الغربي في مدرسته. بهذا، أعادت الفلسفة الحكيمة صياغة العلاقة بين الشفهي والمكتوب، وبين المحلي والكوني، لتضع إفريقيا في قلب الفلسفة العالمية لا في هامشها.

0 التعليقات: