الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أكتوبر 23، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (17) كونفوشيوس وتلامذته : عبده حقي


في زمن الاضطراب السياسي والبحث عن المعنى في الصين القديمة، برز كونفوشيوس (551–479 قبل الميلاد) كمعلّمٍ فيلسوفٍ يرى في الأخلاق والنظام الاجتماعي الطريق الأوحد لبناء الإنسان والمجتمع. تحولت حواراته مع تلاميذه، المدوّنة في التحليلات (The Analects)، إلى حجر الأساس للفكر الشرقي، وخصوصًا الصيني والكوري والياباني. لا تُقرأ هذه الحوارات كوصايا أخلاقية جامدة، بل كرحلة فكرية متواصلة بين المعلّم وتلاميذه، تسعى إلى فهم كيف يمكن للفضيلة الشخصية أن تخلق انسجامًا اجتماعيًا وسياسيًا دائمًا. هنا يتحوّل التعليم إلى ممارسة حياتية، والسياسة إلى أخلاق مطبقة، والإنسان إلى محور الكون الأخلاقي.

لم يكن كونفوشيوس فيلسوفًا نظريًا بقدر ما كان مربّيًا عمليًا. فقد أدرك أن الفلسفة لا تُثمر إلا حين تنعكس في السلوك اليومي. لذلك جاءت التحليلات على شكل حوارات قصيرة بينه وبين تلاميذه، تكشف عن جوهر منهجه القائم على "الإنسانية" (رن )، أي الرحمة والاحترام المتبادل، و"الطقوس" (ل) التي تنظّم العلاقات وتؤطر السلوك الاجتماعي. فبين الأخلاق الداخلية والانضباط الخارجي تتشكل صورة الإنسان المثالي الذي يسميه النبيل (جون زي

في أحد المقاطع الشهيرة، يقول كونفوشيوس: "ليست المعرفة في أن تعرف الكثير، بل في أن تعرف ما هو صواب." في هذا القول تتجسد رؤيته إلى المعرفة كمسؤولية أخلاقية لا مجرد تراكم للمعلومات. إنها معرفة تُقاس بقدرتها على تهذيب النفس وتوجيه السلوك نحو الخير العام. ومن هذا المنطلق، تبدو فلسفة كونفوشيوس أقرب إلى مشروع اجتماعي شامل يرمي إلى إعادة تأسيس العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة على قاعدة الأخلاق.

إن تلاميذ كونفوشيوس، الذين دوّنوا أقواله بعد وفاته، لم يكونوا مجرد نقلةٍ لفكره، بل كانوا فاعلين في صياغة منظومته الفكرية. لقد مثّلوا أجيالاً من المفكرين الذين رأوا في التحليلات خارطة طريقٍ للإصلاح السياسي. فالفضيلة الشخصية عند كونفوشيوس هي شرط الحكم العادل، إذ لا يمكن لحاكمٍ أن يقود الناس بالسلطة إن لم يكن قدوة في السلوك. لذلك يؤكد: "من حكم بالفضيلة، كان كالشمال الثابت، تدور حوله النجوم." هذه الصورة الرمزية تختصر جوهر الفلسفة الكونفوشيوسية: الحاكم الصالح لا يفرض النظام بالقوة، بل يجذب الناس بقوة المثال.

الفكر الكونفوشيوسي لم يقف عند حدود الأخلاق الفردية، بل شكّل أساس النظام البيروقراطي الصيني لأكثر من ألفي عام. فقد تحوّلت التعاليم إلى معايير لاختيار المسؤولين في الدولة عبر "الامتحانات الإمبراطورية"، فصار العالم المثقف هو المثال الأعلى، وجعلت القيم مثل الولاء، والاحترام، والاستقامة، جزءًا من نسيج الحياة العامة. وبذلك تماهت الفلسفة مع السياسة، وصار الإصلاح الأخلاقي مرادفًا للإصلاح الاجتماعي.

على المستوى الفلسفي، قد تبدو التحليلات متواضعة في شكلها، لكنها عميقة في مضمونها. فهي لا تطرح نسقًا نظريًا مجردًا كما فعل أفلاطون أو أرسطو، بل تبني الحكمة من الممارسة اليومية. وهذا ما جعلها نصًا مفتوحًا يتجدد في كل عصر. فالمفاهيم التي يعرضها — مثل "الواجب البنوي" و"الوفاء" و"الصدق" — لا تخص زمنًا بعينه، بل تعبّر عن نزعة إنسانية شمولية تبحث عن الانسجام بين الذات والآخر.

في العصر الحديث، أعاد المفكرون الآسيويون قراءة كونفوشيوس في ضوء تحديات العولمة، معتبرين أن فلسفته تمثل نموذجًا للحداثة الأخلاقية التي لا تفصل التقنية عن القيم. ففي زمن هيمنة الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، تعود أسئلة كونفوشيوس حول "الإنسان الفاضل" لتذكّر العالم بأن التقدّم بلا أخلاق يؤدي إلى فراغٍ روحيٍّ خطير. ولعل ما يفسر بقاء هذه التعاليم حيةً حتى اليوم هو طابعها العملي والإنساني في آنٍ واحد.

في المقابل، تعرضت الكونفوشيوسية أيضًا للانتقاد، خاصة من فلاسفة التنوير الغربيين، الذين رأوا فيها نزعة محافظة تُكرّس الطاعة والنظام على حساب الحرية الفردية. لكن هذا النقد يغفل أن مفهوم "الطاعة" عند كونفوشيوس ليس خضوعًا للسلطة، بل هو التزام بالعلاقة الأخلاقية بين الأجيال والمجتمع. إنها طاعة العقل للضمير، وليست استسلامًا للقوة. لذلك فإن إعادة قراءة التحليلات في ضوء القيم الحديثة تكشف عن فلسفة ديناميكية قادرة على الحوار مع مفاهيم الديمقراطية والعدالة والإنسانوية.

كما أن حضور كونفوشيوس في التعليم الآسيوي الحديث — من الصين إلى كوريا واليابان وسنغافورة — يؤكد استمرار دوره في تشكيل الشخصية الجماعية. فمدارس كثيرة تعتمد حتى اليوم على أقواله في المناهج، وتُقام "معاهد كونفوشيوس" في الجامعات العالمية لنشر اللغة الصينية والثقافة الأخلاقية. هذا الامتداد العالمي يعكس أن الفكر الكونفوشيوسي تجاوز حدوده الجغرافية ليصبح جزءًا من التراث الإنساني المشترك.

الخاتمة:

إن التحليلات ليست مجرد سجل لأقوال معلمٍ قديم، بل مرآة لرحلة الإنسان في البحث عن المعنى، وعن التوازن بين الذات والمجتمع. في عالم اليوم المليء بالاضطرابات، يمكن أن نجد في كونفوشيوس دعوة إلى العودة إلى جوهر القيم الإنسانية: الاحترام، الصدق، العدالة، والمسؤولية. لقد أراد أن يبني عالمًا لا تحكمه القوانين فقط، بل الأخلاق أيضًا. وهكذا يبقى كونفوشيوس، بعد أكثر من ألفي عام، شاهدًا على أن الفلسفة التي تُعلّم الإنسان كيف يعيش مع الآخرين بسلام، هي التي تستحق الخلود.

0 التعليقات: