الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الثلاثاء، أكتوبر 28، 2025

(مَنْدِيلٌ لِلْعَرَقِ وَلَيْسَ لِلدُّمُوعِ ) نَصٌّ شِعْرِيٌّ مقروء ومسموع للكاتب عَبْدِهِ حَقِّي


 لَا أَحْمِلُ مَنْدِيلًا لِأَمْسَحَ بِهِ دُمُوعِي، فَالدُّمُوعُ لَا تُغَيِّرُ شَيْئًا، وَلَا تَسْقِي شَجَرَةَ النِّدَامَةِ. أَحْمِلُ مَنْدِيلًا لِعَرَقِي، لِتِلْكَ القَطَرَاتِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنْ جَبِينِي كَنَجْمَاتٍ تَسْتَقِيمُ عَلَى طَرِيقِ الْحَيَاةِ. أَكْتُبُ بِعَرَقِي كَمَنْ يَحْفِرُ نَهْرًا فِي الْحَجَرِ، لِأَنَّ الدَّمْعَ، مَهْمَا كَانَ دَافِئًا، لَا يَصْنَعُ مَسَارًا.

فِي صَبَاحَاتِ الْحَيَاةِ الْمُتَعَبَةِ، أَمْسَحُ جَبِينِي كَمَنْ يَغْسِلُ وَجْهَ الْحَدِيدِ مِنْ غُبَارِ الْمَعَارِكِ. كُلُّ قَطْرَةٍ مِنْ عَرَقِي شَاهِدَةٌ عَلَى صَبْرِي، وَكُلُّ قَطْرَةٍ مِنْ دَمْعِي شَاهِدَةٌ عَلَى ضَعْفِي، وَمَا بَيْنَهُمَا أَخْتَارُ مَا يُشْبِهُنِي: مَنْدِيلًا يَحْمِلُ رَائِحَةَ التَّعَبِ لَا رَائِحَةَ الْحُزْنِ.

لَا أَبْحَثُ فِي جُيُوبِي عَنْ مَنْدِيلٍ لِلنَّدَمِ، فَالنَّدَمُ خُطَّافٌ يَسْحَبُكَ إِلَى الْبَارِحَةِ، بَيْنَمَا الْعَرَقُ يَدْفَعُكَ نَحْوَ الْغَدِ. مَنْدِيلِي لَيْسَ زِينَةً فِي جَيْبِ السُّتْرَةِ، بَلْ رَايَةَ عَمَلٍ أَبْيَضَ تُلَوِّحُ فِي وَجْهِ النَّهَارِ.

كَمْ بَكَتِ الْعُيُونُ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلَمْ تَتَغَيَّرِ الْحُرُوفُ، وَكَمْ تَعَرَّقَتِ الْأَيْدِي وَكُتِبَ التَّارِيخُ. أَنَا أُؤْمِنُ بِالْجَبِينِ الْمُبْتَلِّ أَكْثَرَ مِمَّا أُؤْمِنُ بِالْعَيْنِ الْمُبْتَلَّةِ. الْعَرَقُ لُغَةُ الْحَيَاةِ، وَالدَّمْعُ لُغَةُ النِّهَايَةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا أَخْتَارُ الْبِدَايَةَ.

فِي كُلِّ طَرِيقٍ أَمْشِيهِ، يَتْرُكُ مَنْدِيلِي رَائِحَةَ الْجُهْدِ عَلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ. أَمْسَحُ بِهِ وَجْهَ الْحُزْنِ فَيَبْتَسِمُ الطِّفْلُ فِي الدَّاخِلِ. أُرَبِّي فِي الْعَرَقِ زُرُوعَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ، وَأُحَرِّرُ فِي الدَّمْعِ أَسْرَى الْمَاضِي.

مَنْدِيلِي يَعْرِفُنِي: يَعْرِفُ مَوَاعِيدَ الْإِرْهَاقِ، وَرَائِحَةَ السَّعْيِ، وَنَبْضَ النَّبَضِ. لَا يَسْتَقِيمُ يَوْمِي إِلَّا بِهِ، فَهُوَ صَاحِبِي فِي الْعَمَلِ، وَشَاهِدِي عِنْدَ النَّوْمِ. وَحِينَ أَضَعُهُ عَلَى الطَّاوِلَةِ، يَعْلَمُ الْعَالَمُ أَنَّنِي لَمْ أَنْسَحِبْ، بَلِ اسْتَرَحْتُ قَلِيلًا مِنْ مَعَارِكِي الْيَوْمِيَّةِ.

فِي الْمَسَاءِ، أَغْسِلُهُ كَمَنْ يَغْسِلُ ذَاكِرَتَهُ مِنْ غُبَارِ التَّجْرِبَةِ، وَأُعَلِّقُهُ عَلَى الْحَبْلِ لِيَجِفَّ تَحْتَ نُورِ الْقَمَرِ، لِيَكُونَ غَدًا جَاهِزًا لِعَرَقٍ جَدِيدٍ.

وَإِذَا سَأَلَنِي أَحَدٌ: لِمَاذَا لَا تَمْسَحُ دُمُوعَكَ؟ أَقُولُ: لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ. أَمَّا عَرَقِي فَيَسْتَحِقُّ مَنْدِيلًا، لِأَنَّهُ مِنْ جِسْمِي وَجُهْدِي وَحَقِيقَتِي.

مَنْدِيلِي الصَّغِيرُ هُوَ وَثِيقَةُ مَوْلِدِي فِي كُلِّ يَوْمٍ جَدِيدٍ، وَكُلَّمَا امْتَلَأَ عَرَقًا، عَرَفْتُ أَنَّنِي كُنْتُ حَيًّا بِصِدْقٍ. فَمَا الدَّمْعُ إِلَّا مِيَاهُ الْخَوْفِ، وَمَا الْعَرَقُ إِلَّا مِيَاهُ الشَّجَاعَةِ. وَأَنَا أَخْتَارُ أَنْ أَتَعَرَّقَ حَتَّى آخِرِ الْقَطَرَاتِ، وَلَا أَبْكِيَ حَتَّى آخِرِ الْآهَاتِ.

عبده حقي




0 التعليقات: