الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

السبت، أكتوبر 25، 2025

الصحافة الاستقصائية في مواجهة شبكات سرقة الهوية الرقمية: عبده حقي

 


في السنوات الأخيرة، أصبحت الصحافة الاستقصائية واحدة من الأدوات النادرة القادرة على إضاءة المناطق المعتمة في الفضاء الرقمي، حيث تتشابك خيوط الجريمة الإلكترونية مع مصالح اقتصادية وسياسية معقدة. وفي مقدمة هذه الظواهر تبرز شبكات سرقة الهوية الرقمية التي تحوّلت إلى صناعة خفية عابرة للحدود، تتغذى على بيانات الأفراد والمؤسسات كما يتغذّى الطفيلي على الجسد الحي.

لقد أظهرت تقارير The Guardian و_ProPublica_ و_Bellingcat_، أنّ الصحفيين الذين اخترقوا هذه الدوائر الافتراضية واجهوا بيئة شديدة الخطورة لا تقل تعقيدًا عن شبكات المافيا التقليدية. فالهويات المسروقة لم تعد مجرد أرقام بطاقات ائتمان أو كلمات مرور، بل أصبحت “هويات كاملة” تشمل الصور والسجلات الصحية والملفات الاجتماعية، تُباع وتُشترى على ما يُعرف بـ”الدارك ويب” كما لو كانت سلعة في سوق حرة.

الصحافة الاستقصائية هنا تؤدي وظيفة مزدوجة: فهي من جهة تكشف البنية التنظيمية لهذه الشبكات التي تُدار غالبًا من دول ذات تشريعات ضعيفة أو من مناطق النزاع، ومن جهة أخرى تطرح أسئلة أخلاقية حول الخصوصية، والمراقبة، ومسؤولية المنصات الرقمية التي تغضّ الطرف عن الانتهاكات ما دامت تحقق أرباحًا. ويكفي أن نتأمل ما كشفه التحقيق الذي نشرته Reuters Institute عام 2024 حول تواطؤ بعض شبكات الإعلان الرقمي مع عصابات الهوية، لنفهم أن “الشفافية الرقمية” ليست شعارًا بل معركة يومية.

من الناحية التقنية، لا يمكن إنكار أنّ هذه الشبكات تستفيد من تطوّر الذكاء الاصطناعي لتزييف الهويات بدقة غير مسبوقة. فقد كشفت دراسة لمعهد MIT Media Lab أنّ خوارزميات التعلم العميق تُستخدم لتوليد صور أشخاص غير موجودين على الإطلاق، تُستعمل لاحقًا في حسابات مزيفة لغرض الاحتيال أو التضليل الإعلامي. وهنا يتقاطع عمل الصحفي مع عمل الخبير الجنائي الرقمي، في بحثٍ مضنٍ عن أثرٍ صغير في محيط من التمويه الخوارزمي.

لكن، كما أن الصحافة تكشف، فهي أيضًا تتعرّض للتهديد. فالكثير من الصحفيين الذين اقتربوا من هذه الملفات وجدوا أنفسهم ضحايا لعمليات اختراق أو تشهير، كما حدث مع الصحفية Carole Cadwalladr في بريطانيا أو مع فرق استقصائية في أمريكا اللاتينية. هذا الصراع بين من يفضح ومن يُخفي يشبه في جوهره لعبة المرايا: كل كشفٍ يولّد محاولاتٍ جديدة للإخفاء، وكل إخفاءٍ يدفع نحو تقنيات أعمق في التحقيق.

البعد الفلسفي في المسألة لا يقل أهمية عن بعدها التقني. فكما يشير شوشانا زوبوف في كتابها “عصر الرأسمالية الرقابية”، لم تعد الهوية ملكًا لصاحبها بل مادة خام تُستخرج وتُباع في أسواق البيانات الكبرى. ومن ثمّ، فإنّ الصحفي الاستقصائي الذي يدخل هذه الشبكات لا يبحث فقط عن مجرم أو ضحية، بل يواجه نظامًا اقتصاديًا كاملاً يقوم على انتهاك الخصوصية وتحويل الإنسان إلى كودٍ تجاري.

من منظور مقارن، تبرز تجارب أفريقية وعربية في هذا المجال تستحق الإشادة. ففي نيجيريا والمغرب وتونس، بدأ جيل جديد من الصحفيين الرقميين في بناء قواعد بيانات محلية لمتابعة قضايا الاحتيال الإلكتروني، مستخدمين أدوات مثل OSINT والتحقق المتعدد المصادر. وقد نشرت منصة African Investigative Journalism Conference عام 2025 تقريرًا يُظهر كيف يمكن للتحقيق التعاوني بين الصحافة وخبراء الأمن السيبراني أن يكشف عن شبكات إقليمية متشابكة تمتد من داكار إلى الدار البيضاء فدبي.

وفي خضمّ هذه المعركة، يظل السؤال الأعمق هو: هل تستطيع الصحافة الاستقصائية أن تحافظ على استقلاليتها في فضاءٍ تتحكم فيه الشركات التقنية العملاقة؟ فكل تحقيق رقمي يحتاج إلى موارد وأمن سيبراني ومهارات تحليل بيانات، وهي عناصر يصعب توفيرها في غرف الأخبار التقليدية. ومع ذلك، فإنّ التاريخ يُظهر أنّ قوة الصحافة لم تكن يومًا في الأدوات بل في الإرادة: الإرادة في طرح الأسئلة التي يخاف الآخرون من طرحها، وفي كشف الحقائق مهما كانت مختبئة خلف الشاشات المضيئة.

إنّ الصحافة الاستقصائية في زمن سرقة الهوية الرقمية تقف على الخط الفاصل بين الشجاعة والجنون، بين الشفافية والهاوية. لكنها تذكّرنا، كما قال الصحفي الأمريكي بوب وودوارد، بأنّ “التحقيق ليس بحثًا عن الجريمة فقط، بل بحث عن الإنسان داخل الجريمة.” فكل هوية مسروقة تخفي وراءها حياةً حقيقية، ووجعًا، وقصة تستحق أن تُروى.

توقيع: عبده حقي

0 التعليقات: