برزت الرواية الأرشيفية الرقمية بوصفها أحد أهم أشكال الأدب المعاصر القادرة على إعادة صياغة التاريخ في ضوء ثورة البيانات الكبرى. فهي ليست مجرد استدعاءٍ للماضي عبر الوثائق، بل فعل إبداعي يعيد تشكيل الذاكرة ويزرع الخيال في قلب المادة التاريخية. إنّها رواية لا تُكتب بالحبر وحده، بل تُشفَّر بالكود، وتُستعاد من بين خيوط الزمن مثلما تُستخرج البيانات من أرشيفٍ سحابيٍّ لا نهائي.
في عالمٍ باتت فيه الأرشفة الرقمية تُنتج أكثر مما تحفظ، يتخذ الأدب موقعًا جديدًا بين التوثيق والتخييل. فالرواية التاريخية التقليدية كانت تعتمد على أرشيف محدود ومؤسساتي، في حين أن الرواية الأرشيفية الرقمية تستند إلى فضاء مفتوح من الوثائق الرقمية، الصور، التسجيلات، والبيانات المتاحة عبر الشبكات. ومن هنا يتجدد سؤال الحقيقة: كيف يمكن للكاتب أن يصوغ سردًا تاريخيًا دقيقًا دون أن يفقد حسَّه الجمالي؟ وكيف تتحوّل البيانات الخام إلى لغة نابضة بالحياة؟ إنّ هذا التوتر بين الواقعي والافتراضي يمنح الرواية بعدًا فلسفيًا جديدًا حول علاقة الإنسان بذاكرته الجمعية.
في هذا السياق، تظهر تجارب عالمية رائدة مثل رواية "Cloud Atlas" لديفيد ميتشل، التي أعادت بناء التاريخ من خلال طبقات سردية متداخلة تشبه خوارزميات التعلم العميق، أو مشروع "Archive of Our Own" الذي جمع ملايين النصوص في فضاء سردي مفتوح يتيح للقراء والكتّاب إعادة كتابة التاريخ الشخصي والجماعي. وفي السياق العربي، يمكن أن نشير إلى محاولات أدبية رقمية تستلهم الأرشيف الاستعماري والمغاربي، حيث تتحول الوثيقة إلى صوت، والصوت إلى ذاكرة مضادة تعيد توازن السرد بين المركز والهامش، كما نجد في بعض أعمال الروائية لطيفة باقا أو الباحث عبد السلام بنعبد العالي في كتابه الفكر والذاكرة.
أما من الناحية التقنية، فإنّ توظيف البيانات الضخمة (Big Data) في بناء السرد يفتح أفقًا جديدًا لما يسميه بعض النقاد بـ"الذكاء السردي الاصطناعي" (Narrative AI). فبدل أن يعتمد الكاتب على الحدس فقط، صار في وسعه تحليل ملايين الوثائق، الرسائل، والمقالات التاريخية بفضل أدوات تحليل النصوص الرقمية. وهكذا، يصبح الذكاء الاصطناعي بمثابة مؤرخٍ مساعد، يقدّم مادّة غنية بالأنماط والمفارقات، بينما يحتفظ الإنسان بالقدرة على إعادة تشكيل هذه المادة جمالياً وفلسفياً. فكما كتب بيير نورا في أماكن الذاكرة: “إنّ الأرشيف ليس ما نحفظه فحسب، بل ما نختار أن ننساه أيضًا.” هذه المفارقة هي ما يمنح الرواية الأرشيفية الرقمية طابعها الإنساني في مواجهة سيل البيانات.
إنّ أخطر ما تواجهه الرواية الأرشيفية الرقمية هو خطر التحول إلى سردٍ بلا روح، إذا ما خضعت كليًا لمنطق الأرقام. فالتاريخ لا يُختزل في الجداول البيانية، بل يحتاج إلى صوتٍ يحكيه. لذلك، تظل مهمة الكاتب المعاصر أشبه بما وصفه بول ريكور في كتابه الذاكرة، التاريخ، النسيان بأنها “القدرة على إعادة سرد الماضي من أجل مقاومة النسيان”. فالبيانات الكبرى تمنح الأدب قدرة غير مسبوقة على التنقيب، لكنها لا تعفيه من ضرورة التأويل الإنساني الذي يجعل من الرواية جسرًا بين العلم والشعر، بين المعلومة والحلم.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الرواية الأرشيفية الرقمية لا تكتب التاريخ فقط، بل تعيد اختراعه على نحوٍ تفاعلي، كما لو أن الماضي نفسه أصبح نصًا مفتوحًا يُعاد تحريره في كل قراءة. في هذا الفضاء السردي الجديد، يصبح الأرشيف كائنًا حيًا، ينام في ذاكرة الخوادم ويستيقظ في خيال القرّاء، وتتحول الرواية إلى مختبرٍ لتجريب معنى الزمن ذاته. وهكذا، فإنّ الرواية الأرشيفية الرقمية ليست مجرّد جنس أدبي جديد، بل مشروع حضاري يُعيد تعريف علاقتنا بالذاكرة، ويمنح للخيال دورًا معرفيًا لا يقل شأنًا عن التاريخ نفسه.
توقيع:
عبده حقي








0 التعليقات:
إرسال تعليق