للعام الثاني على التوالي، يتكرر المشهد ذاته في الجزائر كلما اقترب موعد مناقشة قانون المالية: يتعمد إثارة جدلٌ محتدم حول الميزانية العسكرية التي تبدو وكأنها لا تعرف سقفاً. فقد خُصص للجيش الجزائري سنة 2026 ما يقارب 27 مليار دولار، بعد أن كان قد حصل على نحو 25.8 مليار دولار في السنة السابقة. رقم ضخم يثير التساؤلات في بلدٍ يعاني من اختلالاتٍ اقتصادية وهيكلية عميقة.
ورغم أن أنصار المؤسسة العسكرية يرون في هذا الإنفاق "ضرورة وطنية" لحماية البلاد من التهديدات الإقليمية – من المغرب غرباً، إلى ليبيا وجنوب الساحل شرقاً – إلا أن منتقدي النظام يرون فيه نزيفاً لمال عام يُستنزف في جيش ضخم العدد، بينما القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والسكن تنهار تحت وطأة الإهمال.
لكن خلف هذا الصراع
والنقاش بين المؤيدين والمعارضين، يبرز سؤال أعمق:
هل ينعكس هذا الإنفاق
الهائل فعلاً على أمن الجزائريين؟ أم أنه مجرد تضخيم لجهاز إداري متغول يستهلك أموال
الدولة دون مردودٍ استراتيجي واضح؟
تظهر الوثائق المالية
الرسمية أن الجزء الأكبر من ميزانية الجيش لا يُصرف على التسليح، بل على الإدارة العامة
والتسيير الداخلي. فخلال سنة 2025، أنفقت المؤسسة العسكرية ما يزيد عن 13.4 مليار دولار
فقط لتغطية الرواتب، والإطعام، والإيواء، والعلاج، وصيانة الثكنات.
أما الإنفاق الفعلي
على شراء الأسلحة والمعدات، فقد لم يتجاوز 6.6 مليارات دولار. أي أن ثلثي الميزانية
يذهب إلى تسيير البيروقراطية العسكرية، لا إلى تعزيز القدرات الدفاعية.
ويُقدّر عدد العسكريين
في الجزائر بما بين 450 و470 ألف عنصر، بينهم أكثر من 200 ألف من رجال الدرك الوطني
الذين لا يخوضون المعارك، بل يختصون بالأمن الداخلي. وهذا ما يجعل الجيش الجزائري من
أكثر الجيوش تضخماً في العالم العربي من حيث العدد، وأثقلها على الميزانية من حيث الكلفة
الاجتماعية واللوجستية.
في الوقت الذي تتجه
فيه الدول الحديثة إلى تقليص الجيوش العددية لصالح قوات نخبوية مدرّبة ومجهزة تكنولوجياً،
لا تزال الجزائر تراهن على الكثرة لا النوعية. فبينما تمتلك إسرائيل، مثلاً، أقل من
170 ألف جندي نشط، إلا أن كفاءتها القتالية تجعلها من بين القوى العسكرية المتقدمة
عالمياً.
أما في الجزائر، فإن
كثافة الجنود لا تعني بالضرورة قوة الردع، خصوصاً عندما تظل المنظومة التسليحية بطيئة
في التحديث، وتعتمد أساساً على روسيا التي باتت غارقة في حربها بأوكرانيا ولا تستطيع
الوفاء بصفقاتها العسكرية القديمة.
الأدهى من ذلك أن العديد
من صفقات الأسلحة التي أبرمتها الجزائر لم تُسلَّم بعد، وبعضها مؤجل منذ أكثر من ثلاث
سنوات، ما يجعل الجزء الأكبر من الأموال مجمداً أو مهدوراً في انتظار توريداتٍ مؤجلة
أو معداتٍ متقادمة.
الحقيقة التي يتجاهلها
النظام هي أن الأمن الوطني لا يتحقق بالبندقية وحدها. فبلدٌ يعاني من بطالة مرتفعة،
ومدارس متدهورة، ومستشفيات متهالكة، لا يمكن أن يكون آمناً مهما بلغت ترسانته العسكرية.
إن الأمن، كما يؤكد
الخبراء، منظومة شاملة تقوم على التوازن بين العسكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
فكلما توسعت الفجوة بين الجيش والمجتمع، زادت هشاشة الأمن الداخلي، وانفتح الباب أمام
التطرف واليأس والهجرة غير النظامية.
يبقى السؤال الأكبر: هل تحتاج الجزائر فعلاً إلى نصف مليون عسكري
في زمن الحروب السيبرانية والطائرات المسيّرة؟
أم أنها تحتاج إلى
جيش مهني مصغّر، فعّال، عالي التدريب، مع إعادة هيكلة الجندرمة وفصلها عن وزارة الدفاع
لتقليص النفقات وتنظيم الأدوار؟
الجواب يتجاوز الأرقام.
فالقضية ليست في 27 ملياراً تُصرف أو لا تُصرف، بل في عقيدة الدولة التي ترى في الجيش
ركيزة للشرعية لا أداة للدفاع فحسب.
ما دام النقاش حول
"الميزانية العسكرية" في الجزائر محرّماً، وما دامت الشفافية غائبة عن أرقام
الجنود ونفقاتهم، فسيبقى السؤال مفتوحاً:
هل تحمي هذه الجيوشُ
الوطن، أم تحمي السلطة من الوطن؟
توقيع: عبده حقي








0 التعليقات:
إرسال تعليق