لم يكن الإنسان يومًا أقرب إلى صورته منه في هذا العصر الرقمي، ولم يكن أسيرًا لذاته كما هو اليوم أمام شاشةٍ تُتيح له أن يصنعها ويعيد تشكيلها كل لحظة. لقد تحوّل فيسبوك إلى مرآةٍ رقمية كبرى تعيد إنتاج أسطورة "نرجس" الإغريقية الذي عشق انعكاس صورته حتى فنى فيه. غير أنّ هذا الانعكاس الجديد لا يتمّ على صفحة ماءٍ صافية، بل على سطحٍ شبكيٍّ مضيءٍ يخفي خلف بريقه صراعًا خفيًا بين الأنا والعالم، بين الحاجة إلى التواصل والرغبة في التمركز حول الذات.
في بداياته، كان فيسبوك مساحةً لتبادل الأفكار والصور وبناء صداقاتٍ عابرةٍ للحدود. لكن سرعان ما تحوّل إلى مسرحٍ ضخم للأنا.
فكل منشورٍ هو مشهد، وكل صورةٍ قناع، وكل تعليقٍ تصفيقٌ أو تجاهل. يتسابق المستخدمون إلى عرض تفاصيل حياتهم اليومية، انفعالاتهم، أسفارهم، وحتى أطعمتهم. وكأنّ الإنسان فقد لذّة العيش الواقعي ليعيش داخل عرضٍ دائم للذات، ينتظر التفاعل كمن ينتظر الاعتراف بوجوده.
لم يعد التواصل غايةً في ذاته، بل صار وسيلةً لتغذية الشعور بالحضور. فعدد الإعجابات والمشاركات صار مقياسًا رمزيًا للقيمة الذاتية، وتحول الاهتمام بالآخر إلى مقارنةٍ وقياسٍ مستمرين. إنها ثقافة العدّ والإحصاء التي تجعل من كل تفاعلٍ رقمًا في ميزان النرجسية الرقمية الجديدة.
يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو إنّ الإنسان المعاصر يعيش داخل رأسمال رمزي قوامه الاعتراف الاجتماعي.
وفيسبوك هو أكثر الحقول التي تتيح لهذا الرأسمال أن يتضخّم. فكلّ "إعجاب" عملة رمزية، وكلّ تعليقٍ شكلٌ من الاعتراف. وهكذا تتحوّل الذات إلى منتجٍ بصريٍّ يتنافس مع آلاف الصور الأخرى في سوقٍ لا يهدأ.
لكن خلف هذه الواجهة المضيئة وجوهٌ متعبة. خلف الضحكات المصوّرة قلقٌ من فقدان الاهتمام، وهشاشةٌ في الإحساس بالذات، وانكساراتٌ خفية حين لا تتلقّى الصورة ما يكفي من التفاعل.
يصبح الإنسان أسيرًا لصورته أكثر من كونه صانعًا لها، وتتحوّل صفحته الشخصية إلى سجنٍ افتراضي مزخرف.
يرى علماء النفس أنّ ما يحدث على فيسبوك هو نوعٌ من التضخّم النرجسي المصطنع، تغذّيه خوارزمياتٌ تحفّز الإدمان على التفاعل. فكل إشعارٍ جديد يفرز جرعةً من الدوبامين في الدماغ، فيتكرّر السلوك بدافع المتعة اللحظية دون وعيٍ بالعزلة التي تراكمها هذه اللذّات الصغيرة.
ومن المفارقات أنّ هذا العالم الموصُول بالشبكات يولّد مزيدًا من القطيعة النفسية والاجتماعية.
فالفرد يعيش وسط آلاف "الأصدقاء" الافتراضيين، لكنه يزداد شعورًا بالوحدة، لأنه لا يتلقّى سوى انعكاس ذاته على شاشات الآخرين.
إنّه اغترابٌ من نوعٍ جديد: اغتراب داخل الذات، لا خارجها.
لا يسعى فيسبوك إلى بناء علاقاتٍ إنسانية بقدر ما يهدف إلى السيطرة على اقتصاد الانتباه.
فكل ثانيةٍ يقضيها المستخدم أمام الشاشة موردٌ ثمين يتمّ تحويله إلى بياناتٍ وإعلانات.
لهذا تُصمَّم الخوارزميات لتُبقي الإنسان في دائرة التفاعل الدائم، حيث تتغذّى النرجسية الفردية بينما تتغذّى المنصّة من بياناته.
إنها صفقة غير متكافئة: المستخدم يظنّ أنه يعرض ذاته بحرّية، لكنه في الحقيقة يعرضها في سوقٍ تُقاس فيه القيم بعدد النقرات.
فيتحوّل الإنسان من كائنٍ يملك صورته إلى سلعةٍ رقميةٍ تملكها المنصّة.
لكن هذا الواقع ليس قدرًا محتوماً. فكما يستطيع الإنسان أن يغرق في مراياه، يمكنه أيضًا أن يستخدمها ليتأمل ذاته بوعيٍ جديد.
المطلوب ليس الهروب من فيسبوك، بل ترويضه:
أن يتحوّل من مرآةٍ تُضخّم الأنا إلى نافذةٍ تُطلّ على الآخر.
أن نشارك لا لنتباهى، بل لنتواصل.
أن نكتب لا لنثبت وجودنا، بل لنسبره ونتجاوزه.
في هذا السياق، يجب أن نعيد طرح سؤال "من أنا؟" في زمن الصورة والبيانات.
فالذات لم تعد كيانًا ثابتًا، بل صورةً متحركةً تتغذّى من نظرات الآخرين.
غير أنّ الوعي بهذه الآلية هو الخطوة الأولى نحو التحرّر منها.
حين نعرف كيف تعمل المرآة، نكفّ عن الوقوع في سحر انعكاسها.
إنّ النرجسية الرقمية ليست سوى الوجه الجديد لبحث الإنسان الدائم عن المعنى والاعتراف.
لكن الخطورة تكمن في أن تتحوّل هذه الحاجة إلى عبوديةٍ للشاشة، وأن يصبح "الإعجاب" بديلاً عن الحبّ، و"المشاركة" بديلاً عن التواصل الحقيقي.
في عالمٍ تغزوه الصور وتتناسخ فيه الأناوات، يظلّ الوعي النقدي هو السلاح الأخير لاستعادة الإنسان من بين شظايا صورته.
عبده حقي
كاتبٌ مغربي، باحثٌ في الثقافة الرقمية








0 التعليقات:
إرسال تعليق