يبدو أنّ الحدود التقليدية بين الأجناس السردية قد بدأت تتآكل، كما تتآكل الجدران القديمة بفعل الريح والمطر، لتترك المجال مفتوحًا أمام أشكال جديدة من التداخل الإبداعي. ومن أبرز هذه التجارب المعاصرة ما يمكن تسميته بـ "الرواية المسرحية الغامرة"، وهي صيغة سردية هجينة تستلهم تقنيات المسرح التفاعلي وأدوات السرد الرقمي لتنتج تجربة أدبية لا تُقرأ فقط، بل تُعاش وتُختبر كما لو أنّ القارئ جزء من خشبة العرض، وكأنّ الرواية مسرح متخيّل ينبض بالحركة ويجعل المتلقّي شريكًا في بناء العالم النصّي.
في العقود الأخيرة، أثارت تجارب مسرح غامر مثل Sleep No More في نيويورك، وThe Great Gatsby Immersive Experience في لندن، نقاشًا واسعًا حول معنى «الانغماس» في الفنون. وقد رأى منظّر المسرح الأمريكي ريتشارد شخنر أنّ الأداء المعاصر يحرّر المتلقّي من موقع المتفرّج، ويُسقطه داخل الفعل الدرامي، ليصبح جزءًا من «مجتمع الأداء» لا مجرد عينٍ تراقب. هذا التحوّل الجمالي ألهم كتّابًا وروائيين عالميين للبحث عن معادلٍ سرديّ يمكّن الرواية من اكتساب خصائص المسرح الغامر دون أن تفقد هويتها الأدبية.
ومع تطوّر الكتابة الرقمية والمنصّات التفاعلية، لم يعد السؤال هو: هل يمكن للرواية أن تستعير من المسرح؟ بل أصبح: كيف يمكن للرواية أن تصبح مسرحًا؟ وكيف يمكن للنص أن يتحوّل إلى فضاء أداءٍ حيّ، تتشابك فيه اللغة مع الحركة، والخيال مع الجسد، والصوت مع الصمت؟
تأمُّل هذه الأسئلة يقودنا إلى بنية جديدة للرواية، بنية لا تعتمد فقط على تطوّر الحبكة والشخصيات، بل على التصميم التجريبي للمساحة السردية. فالقارئ في الرواية الغامرة ليس قارئًا بالمعنى التقليدي، بل «مؤديًا سلبيًا»، كما يصفه الباحث هنري جينكينز في كتابه Convergence Culture، مشاركٌ في بناء المعنى من خلال الحركة بين طبقات النص وروابطه ومساراته المتعددة. وقد وجدت هذه الرؤية امتدادًا في مقاربات حديثة للكتابة الرقمية، مثل ما تناوله بول ليفي في حديثه عن «مسرحة الحاسوب» و«تجسيد المعرفة» داخل الفضاء الإلكتروني.
إنّ الرواية الغامرة تستعير من المسرح ثلاثة عناصر مركزية: الفضاء، الزمن، والجسد.
فالفضاء لم يعد مجرد خلفية للأحداث، بل يتحوّل إلى «خشبة نصّية» تُبنى فيها المشاهد سرديًا وبصريًا، وربما سمعيًا عبر الطبقات الصوتية أو الروابط المتعدّدة. والزمن يتشظّى، يتقدّم ويتراجع، كما في تقنيات الـ flashback وlooping المستخدمة في المسرح التفاعلي، مما يمنح القارئ حرية التجوال بين لحظات الحدث. أمّا الجسد، فهو الجسر الأكثر حداثة في هذا التداخل؛ فالرواية الغامرة تستحضر الجسد بوصفه مركزًا للانفعال والتجربة، يُعاد بناؤه داخل النص عبر التوصيف الحركي والديناميكي، كما فعلت الروائية مارغريت أتوود في بعض مشاريعها الرقمية الأخيرة.
وبفضل التقنيات الرقمية، أصبح من الممكن تحويل بعض مشاهد الرواية إلى «أداءات افتراضية» يعيشها القارئ من خلال الصوت والصورة والحركة، كما في الروايات التفاعلية التي تصدرها منصات مثل Twine أو Ink. وقد رأى النقّاد أنّ هذا الشكل يقترب أكثر من «العرض الحيّ»، لأنّه يخلق علاقة آنية بين القارئ والنص، علاقة تتجاوز القراءة نحو المشاركة والتأثير.
ورغم هذا التطوّر، يبقى السؤال النقدي الأساسي: ما الذي يضيفه المسرح الغامر إلى الرواية؟
الإجابة ليست بسيطة، لكنّها يمكن أن تتبلور في ثلاثة مستويات. أولها، أنّ الانغماس يعيد الاعتبار للحواس داخل السرد، فلا تبقى الرواية ملكًا للعين فقط، بل تمتد لتلامس السمع والخيال اللمسي وربما حتى الإيقاع الجسدي. ثانيها، أنّ الانغماس يمنح الرواية تعدديّة في المسارات، يجعل القارئ مشاركًا في بناء الحدث، مما يخلق علاقة حميمة بين المتلقّي والنص. ثالثها، أنّ هذا الشكل الجديد قد يُعيد تشكيل مستقبل السرد الروائي في عصر الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز.
وقد برزت تجارب حديثة في العالم العربي تستلهم هذا التوجّه، وإنْ بشكل جنيني، مثل بعض المشاريع الرقمية في المغرب ولبنان ومصر، التي دمجت بين الرواية والوسائط المتعدّدة، واستخدمت الصوت والخرائط البصرية لتعزيز الانغماس. ويمكن القول إنّ هذا الحقل لا يزال مفتوحًا على احتمالات واسعة، خاصة مع دخول تقنيات مثل الواقع الافتراضي (VR) والواقع المختلط (MR) إلى المجال الثقافي.
في النهاية، تبدو «الرواية المسرحية الغامرة» ليست فقط تجربة إبداعية جديدة، بل رؤيا بديلة لمفهوم القراءة ذاته. إنها دعوة للقارئ للخروج من مقعده، والدخول إلى «خشبة النص» كما يدخل ممثلٌ متوّجًا بالخيال. ولعلّ هذا الشكل الهجين، الذي يقف بين الأدب والمسرح والتكنولوجيا، يعيد تعريف السؤال الأبدي: هل نقرأ الرواية أم تعيشنا؟








0 التعليقات:
إرسال تعليق