لم يَعُدِ الذكاءُ الاصطناعيُّ تقنيةً على هامش الثورة الرقمية؛ لقد غدا مركزها النابض، والقوّة التي تُعيد صِياغة علاقتنا بالعمل والمعرفة والإبداع كما لو أنّنا نعيش لحظة انتقالية تُشبه ما أحدثه اكتشافُ الكهرباء أو اختراعُ الإنترنت. وفي صُلب هذا التحوّل تقف شركة OpenAI تحت قيادة رئيسها التنفيذي سام ألتمان، الذي يدفع بها بسرعةٍ محسوبة بعيداً عن دورها الأول كمختبر بحثي محدود، نحو فضاءٍ اقتصادي–تكنولوجي أوسع يجعل الذكاء الاصطناعي يتسرّب إلى كل قطاع وكل جهاز وكل لحظة من الحياة اليومية.
تبدو خطوة OpenAI، في ظاهرها، امتداداً طبيعياً لسباقٍ عالمي محموم، لكنّها في العمق تعكس رؤية جذرية لإعادة تعريف معنى التكنولوجيا ذاتها: ليس بوصفها أداة، بل باعتبارها بنية تحتية ذكية تتكامل مع الإنسان في كل فعلٍ صغير أو كبير.
ذكاء اصطناعي مُعمّم: نهاية عصر التطبيقات المُجزّأة
تسعى OpenAI إلى ما يمكن تسميته بـ "الذكاء الاصطناعي الشامل"—نموذج واحد قادر على:
-
المحادثة،
-
التحليل،
-
البرمجة،
-
الفهم متعدد الوسائط (صوت، صورة، فيديو)،
-
واتخاذ القرار في الوقت الحقيقي.
بهذا الطموح، تتجاوز الشركة مرحلة الأدوات المتخصصة نحو منصّات عقلية يمكن إدماجها في السيارات ذاتية القيادة، والهواتف الذكية، وسلسلات التوريد، والتعليم، والإعلام. لم تعد الشركة تكتفي ببناء نماذج لغوية؛ بل تحاول إنتاج عقل رقمي مرن يرافق المستخدم كما ترافقه الكهرباء أو الإنترنت.
هذه النقلة تُذكّر بما كتبه الفيلسوف التقني نيك بوستروم في Superintelligence حين اعتبر أن أخطر ما يمكن أن تفعله الشركات ليس تطوير ذكاء قوي، بل جعله متاحاً في كل مكان قبل وضع ضوابطه.
سام ألتمان: بين هوس الابتكار ورهانات السلطة
يشكّل ألتمان العنصر الأكثر جدلاً في هذه المرحلة. فهو من جهة يقدّم نفسه بوصفه مهندس المستقبل، ورجلاً يسعى إلى “ديمقراطية الذكاء الاصطناعي”، ومن جهة أخرى يقود توجهاً يجعل من OpenAI شركة ذات طموح إمبراطوري تتنافس مع عمالقة التكنولوجيا مثل Google وMeta وAmazon.
قراراته الأخيرة—سواء في إطلاق نسخ متقدمة من GPT أو الانفتاح على شراكات صناعية كبرى—تعكس إرادة في الهيمنة على البنية التحتية الذكية للعالم. وكلما اتسعت قدرة النماذج على الفهم والتوليد والتفاعل، اتسعت معها مخاوف الباحثين من تحوّل الشركة إلى طرف يُملي شروط المستقبل التقني على بقية العالم.
وفي خلفية هذا المشهد، تلوح صدامات داخلية وخارجية—بين مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي، وبين OpenAI والهيئات التنظيمية—تعكس طبيعة الانتقال من مختبر بحثي إلى مؤسسة ذات ثقل سياسي واقتصادي عالمي.
من معمل للأبحاث إلى مؤسسة اقتصادية–صناعية
كان تأسيس OpenAI، في بدايته، محاولة لإنتاج ذكاء اصطناعي مفتوح للجميع. كانت الفكرة أقرب إلى "خدمة عامة" للتقنية المتقدمة. لكن اليوم، تُظهر تحركات الشركة أنّها تسير في الاتجاه نفسه الذي سارت فيه شركات عدة قبلها: التحوّل من نزعة مثالية إلى منظومة اقتصادية ضخمة تُقدّم حلولاً تجارية وصناعية.
المستثمرون الكبار، وعلى رأسهم مايكروسوفت، يدفعون باتجاه:
-
إدماج النماذج الذكية في سلسلة منتجاتهم،
-
تحويل الذكاء الاصطناعي إلى خدمة أساسية كالإنترنت،
-
استثمار تفوق OpenAI في سباق النماذج التوليدية.
هذا التغيير يشبه التحوّل التاريخي لشركة الإنترنت Mozilla حين وجدت نفسها أمام خيار صعب: البقاء مؤسسة غير ربحية أو دخول السوق العملي لمنافسة عمالقة الصناعة.
ذكاء اصطناعي في كل شيء: من الكاميرا إلى غرفة الأخبار
تعمل OpenAI بتنسيق واسع مع عمالقة التقنيات والأجهزة على جعل الذكاء الاصطناعي جزءاً عضوياً من كل منصة يومية:
-
كاميرات قادرة على التحليل الفوري،
-
هواتف تتضمن نماذج لغوية تعمل محلياً،
-
نظم تدقيق صحفي تعيد صياغة الأخبار،
-
مساعدين شخصيين ذوي وعي سياقي،
-
روبوتات صناعية تتعلم دون برمجة مباشرة.
وقد بدأت بالفعل ملامح هذه الرؤية في الظهور من خلال شراكات متقدمة مع صانعي الشرائح الإلكترونية ومنصّات السحابة العملاقة.
بهذا المعنى، لم تعد OpenAI تصنع منتجاً واحداً؛ بل بيئة تشغيل عالمية تُعيد تشكيل التفاعلات البشرية – من التعليم إلى الإعلام، ومن الأمن السيبراني إلى الفن.
الجدل الأخلاقي: عالم مُحاط بوعيٍ غير بشري
مع توسّع قدرات OpenAI، تتعاظم الأسئلة الأخلاقية:
هل يمكن لنموذج لغوي يعرف كل شيء تقريباً أن يتجنب التحيّز؟
هل سنثق بأنظمة تتخذ قرارات مالية أو طبية؟
هل ستتحول الشركة إلى "حارس بوابة" للمعرفة في العالم؟
لقد أشارت تقارير صحفية—مثل تحقيق New York Times حول هيمنة الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار—إلى أنّ المؤسسات الإعلامية بدأت فعلياً تعتمد على نماذج OpenAI لإنتاج الأخبار ومسودات المقالات والمحتوى البصري، مما يثير أسئلة عن مستقبل المهنة وحقوق المؤلف وملكية الأفكار.
كما تزايدت المخاوف من قدرة النماذج المتقدمة على محاكاة الأصوات والصور بدقة عالية، خصوصاً بعد الجدل الذي أثاره صعود تقنيات "التزييف العميق" ودورها في الحملات السياسية.
بين الخوف والأمل: هل نقترب من نقطة التحوّل؟
تبدو الخطة التي تقودها OpenAI أقرب إلى إعلان عن "عصر جديد" كما وصفه ألفين توفلر في كتاب الموجة الثالثة، حيث تصبح المجتمعات مبنية على تدفقات الذكاء أكثر من تدفقات الطاقة أو المال.
لكن هذا العصر الجديد لا يأتي بلا ثمن؛ فبقدر ما يمنح ذكاءً اصطناعياً شاملاً إمكانات هائلة، فإنه يضع الإنسانية في مواجهة أسئلة لم تُطرح من قبل حول التحكم، المسؤولية، والحدود.
ولعل أخطر ما في المشهد هو أنّ وتيرة التغيير أسرع من قدرة المجتمعات على فهمه. فبينما يناقش المشرّعون قوانين حماية الخصوصية، تكون النماذج الجديدة قد تجاوزت ثلاث مراحل من التطوير.
خاتمة: عالم جديد يتشكّل… ومن يكتب قواعده؟
إنّ "الذكاء الاصطناعي في كل شيء" ليست مجرد رؤية تقنية، بل مشروع إعادة ترتيب شامل لطريقة عمل العالم.
وOpenAI، بقيادة سام ألتمان، هي أحد أهم اللاعبين في كتابة هذه القصة.
السؤال الحقيقي لم يعد:
ماذا سيفعل الذكاء الاصطناعي؟
بل:
من سيملك القدرة على توجيهه؟
في هذا السياق، تصبح خطة OpenAI أكثر من مجرد مسار تجاري؛ إنها خطة لتحديد موقع الإنسان في العصر الرقمي العميق.
ولذلك، فإن متابعة ما تفعله هذه الشركة ليست متابعة تقنية فحسب، بل متابعة لمصير بنية العالم الذي نعرفه… العالم الذي يتشكل الآن أمام أعيننا.







0 التعليقات:
إرسال تعليق