لم يعد السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيؤثر في سوق العمل أم لا؛ فهذه المرحلة انتهت منذ اللحظة التي بدأت فيها الآلة تكتب، وتتحدث، وتفكّر، وتنظم الاجتماعات، وتدير المصانع. السؤال الحقيقي أصبح: كيف سنعيش مع هذا الكائن الرقمي الجديد الذي يزاحمنا بهدوء على المكاتب والشاشات؟
على مدى الشهور الماضية، بدا وكأن العالم كله يجلس في قاعة انتظار كبيرة، يراقب تغيرات سوق الشغل بنفس القلق الذي يرافق نتائج الفحوص الطبية. موظفون، أساتذة، إعلاميون، محامون، وحتى مهن كانت تبدو بعيدة عن رقابة الخوارزميات، أصبحت اليوم تتساءل: ماذا سيبقى لنا من مهامنا؟
ورغم الضجيج، فإن أصوات عدد من وجوه التكنولوجيا العالمية تضيف طبقات جديدة لهذا النقاش.
إيلون ماسك، على سبيل المثال، لا يختار الكلمات اللطيفة. الرجل يرى المستقبل بحدة تكاد تُقلق أكثر المتفائلين، ويحذّر من أن تقدم الذكاء الاصطناعي ليس “رفاهية تقنية”، بل منعطف قد يقود إلى بطالة واسعة إن لم نُعد ترتيب أنظمة التعليم وإعادة تكوين العمال.
على الضفة الأخرى، يطلّ بيل غيتس بخطاب أقرب إلى الواقعية الهادئة. بالنسبة له، لن يختفي العمل، لكنه سيتغيّر جذريًا. 80% من المهام اليومية، كما يقول، ستتحول إلى صيغ جديدة، فيما ستظهر مهام لا نملك لها اليوم حتى اسمًا واضحًا.
أما سام ألتمان، الوجه الأكثر التصاقًا بمستقبل الذكاء الاصطناعي التوليدي، فيبدو كمن يعترف بأن العالم يدخل منطقة ضبابية. الرجل لا ينكر المكاسب، لكنه يتحدث بلا تجميل عن “مرحلة انتقالية صعبة” قد تمتد لسنوات قليلة، مرحلة سيجد فيها الكثيرون أنفسهم بين عمل قديم يتلاشى وآخر جديد لم يتشكل بعد.
التقارير الاقتصادية تزيد الصورة تعقيدًا. فالوظائف المهددة ليست فقط تلك التي تعتمد على الجهد العضلي أو الروتيني، بل حتى المهن المكتبية التي كانت تُعدّ لسنوات طويلة محمية وسط الملفات والاجتماعات والهوامش. وتُجمع مؤسسات دولية على أن العقد القادم سيعرف أكبر عملية إعادة تشكيل للمهارات منذ الثورة الصناعية.
ورغم هذا الاضطراب، يلوح بصيص أمل. فشركات التكنولوجيا نفسها – التي تُتَّهم أحيانًا بالوقوف خلف هذا الزلزال – بدأت تفتح أبوابًا جديدة: مهندسو أمان الخوارزميات، مدربو النماذج اللغوية، مصممو البيئات الغامرة، اختصاصيو الأخلاقيات الرقمية… مهن لم تكن موجودة حتى الأمس القريب.
حتى المجالات الإبداعية، التي يخشى البعض عليها من “هيمنة الآلة”، يبدو أنها ستخرج أكثر ثراءً، لأن الفكرة اليوم لم تعد مواجهة الذكاء الاصطناعي، بل استخدامه كأداة توسّع خيال الإنسان بدل أن تضيق عليه.
وسط هذه الزحمة من الأصوات والتوقعات، يبقى السؤال المركزي: هل نستعد فعلاً لعالم يتغير بهذه السرعة؟
ليست المسألة مرتبطة بالخوف أو الحماس، بل بالقدرة على مواكبة تعليم يواكب اللحظة، وبرامج تكوين قادرة على رفع الناس إلى مهن جديدة بدل تركهم على هامش التحول العالمي.
وبين التفاؤل والتحفظ، يبدو شيء واحد مؤكدًا: الذكاء الاصطناعي لن يلغي الإنسان، لكنه سيجبره على أن يكون أكثر مرونة، وأكثر خيالًا، وربما أكثر حضورًا في كل ما لا تستطيع الآلة أن تحققه… حتى إشعار آخر.








0 التعليقات:
إرسال تعليق