شهدت الجزائر خلال الأسابيع الماضية سلسلة تطورات أعادت إلى الواجهة العلاقة المأزومة بين السلطة وحرية التعبير، وذلك بعد التفاعل الكبير الذي أثارته قضيتا الكاتب بو علام صنصال والصحافي المخضرم سعد بوعكبة. القضيتان، رغم اختلاف سياقاتهما، تُظهران بجلاء حجم الهشاشة السياسية التي تطبع المشهد الجزائري في الوقت الراهن، وتكشفان أزمة أعمق تتعلق بقدرة الدولة والمجتمع على إدارة النقاش العام حول التاريخ والسياسة.
القضية الأولى تخص
الكاتب بوعلام صنصال، الذي أثارت تصريحاته القديمة حول وضع الحدود الجزائرية–المغربية
موجة غضب رسمية انتهت باعتقاله في 16 نوفمبر 2024. التصريحات نفسها تعود إلى حوار صحافي
نشر قبل نحو خمسة عقود في ملحق "لوموند للكتب"، لكنها عادت إلى التداول مؤخراً
بعد أن تناولتها برامج إعلامية محلية.
إحياء هذه العقدة القديمة،
وما تلاها من إجراءات قضائية قاسية، يطرح – بحسب العديد من المتابعين – سؤالًا أعمق
حول حساسية السلطة تجاه أي قراءة نقدية للملفات التاريخية أو الجغرافية التي تعتبرها
"خارج النقاش". فالخلاف لا يتعلق بنص أو تعليق، بقدر ما يعكس مناخًا عامًا
يتسم بالتوتر والتوجس من أي خطاب خارج الأطروحة الرسمية.
القضية الثانية، التي لم تقل إثارة للجدل، تخص الصحافي المعروف سعد بوعقبة، أحد أبرز الأقلام التي طبعت الصحافة الجزائرية منذ سبعينيات القرن الماضي. الرجل، الذي بلغ الثمانين، وجد نفسه مجددًا أمام القضاء بعد استدعائه على خلفية دعوى تقدمت بها ابنة الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، بسبب تصريحات وردت في سلسلة حوارات سجلها مع قناة "Vision TV" الجزائرية.
ورغم أن الحوارات كانت
ذات طابع توثيقي وتاريخي، وأن الروايات المذكورة فيها سبق تداولها في كتب وأبحاث أكاديمية،
فقد اعتُبر بعض ما ورد فيها "مساسًا بسمعة شخصيات تاريخية". الأمر يعيد التذكير
بحكم سابق صدر ضده في أكتوبر 2023 بالسجن لمدة ستة أشهر بسبب مقال رأى فيه القضاء إساءة
لمنطقة جغرافية في البلاد، رغم كونه نصًا نقديًا حول ممارسات سياسية محلية.
وتزيد حساسية الملف مع كون سعد بوعكبة ممنوعًا من السفر منذ فبراير 2023، رغم حاجته إلى العلاج ورغبة ابنه المقيم في بريطانيا في استضافته.
تثير هذه القضايا مجموعة
أسئلة حول حدود دور القضاء في معالجة ما يُفترض أنه نقاش فكري وتاريخي. فالروايات المتعلقة
بالثورة الجزائرية، وصراعات ما بعد الاستقلال، وملف "كنز جبهة التحرير"،
كلها ملفات لم يحسمها المؤرخون بعد، وظلت موضوعًا للبحث والجدل منذ عقود.
تحويل هذا الجدل الفكري
إلى نزاع قضائي يضع المحاكم في موقع لا يتوافق مع طبيعتها. فالقضاء يُفترض أن يبتّ
في الاعتداءات الواضحة مثل التشهير أو التحريض على الكراهية، لكنه ليس مخولاً بالحسم
في “صحة” رواية تاريخية أو “بطلان” أخرى، ولا بتحديد أي الشخصيات “محصّنة” من النقد
وأيها قابلة للنقاش.
يرى مراقبون أن ما
يجري يعكس حالة توتر داخل المجتمع الجزائري منذ أزمة 2019، وما رافقها من انقسامات
وصدامات سياسية. هذا المناخ جعل السلطة أكثر حساسية تجاه الآراء النقدية، وجعل المثقفين
والصحافيين أكثر تعرضًا للمتابعة القضائية. فالنقاش السياسي اليوم محاصر، والخطاب التاريخي
لا يقل حصارًا عنه، في وقت تتوسع فيه مقاربة تعتبر أي رأي مخالف تهديدًا للنظام العام.
ورغم أن الجزائر تواجه
تحديات اقتصادية واجتماعية خطيرة، فإن جزءًا كبيرًا من الجهد الرسمي ما يزال يُوجَّه
نحو متابعة الكُتّاب والفنانين والأصوات المستقلة، بدل التركيز على الجرائم المنظمة
أو الأزمات الاجتماعية المتفاقمة.
إن تقييد النقاش حول
الماضي يفتح الباب على مزيد من سوء الفهم، ويُبقي الذاكرة الجماعية أسيرة التوجّه الرسمي
وحده.
فالتاريخ ليس نصًا
مقدسًا، والروايات المتعددة جزء من أي مجتمع حي. ولا يمكن لأي دولة أن تدير حاضرها
أو تبني مستقبلها بينما تمنع مواطنيها من إعادة قراءة ماضيهم.
قضية سعد بوعقبة وبوعلام صنصال ليستا سوى علامتين على أزمة أعمق:
أزمة الثقة بين السلطة
والمجتمع، وأزمة غياب فضاءات للحوار الرصين، وأزمة تحويل الفكر إلى ملف أمني.
وفي النهاية، لن تُحلّ
هذه الإشكالات عبر المتابعات القضائية، بل عبر فتح المجال للنقاش الحر، وتقبّل تعدّد
الرؤى، وتنظيم الحوار بدل تجريمه.








0 التعليقات:
إرسال تعليق