الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأحد، نوفمبر 09، 2025

الفن وإبستمولوجيا المعرفة: دراسة في تداخل الجمالي والإدراكي: ترجمة عبده حقي


مقدمة 
يُعدّ الفن أحد أهم الفضاءات التي اختبر فيها الإنسان أسئلته الكبرى حول العالم والذات والوجود. ورغم أن الإبستمولوجيا نشأت كتخصص فلسفي يعنى بشروط المعرفة وحدودها ومناهجها، فقد ظل الفن مجالاً موازياً للمعرفة، يمتلك أدواته الخاصة في إنتاج الفهم وتوسيع الإدراك، لا بوصفه بديلاً للعلم أو الفلسفة، بل بوصفه شكلاً معرفياً قائمًا على التجربة والانفعال والحدس. ومن هنا تبرز أهمية البحث في العلاقة بين الفن والإبستمولوجيا، تلك العلاقة التي تبدو ظاهرياً بين مجالين مختلفين، لكنها في عمقها علاقة تواشجٍ مستمر، يجعل من الفن مختبراً دائماً لإعادة بناء مفهوم الحقيقة وصياغة الصورة الإدراكية للعالم.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل طبيعة العلاقة بين الفن والمعرفة، واستجلاء كيف ينتج الفن أنماطاً من الفهم تختلف عن الفهم العقلي المحض، لكنها تساهم بشكل فعّال في توسيع آفاق الإدراك البشري. كما تتناول الدراسة الدور الذي لعبه الفن في تشكيل الوعي، وكيف تعامل الفلاسفة مع هذه العلاقة منذ اليونان القديمة إلى فلسفات الحداثة وما بعد الحداثة، وصولاً إلى عصر الذكاء الاصطناعي اليوم.

أولاً: الفن باعتباره تجربة معرفية

منذ الرسوم الأولى في كهوف "لاسكو"، أدرك الإنسان أن العالم لا يكفي أن يُرى، بل يجب أن يُعاد تمثيله. فالفنان لا ينقل الشيء كما هو، بل يقدّم "معرفة" تتجاوز الواقع إلى ما خلفه. هذه التجربة، التي تتأسس على الحسّ والحدس، تمنح الإنسان إمكانية فهم ما لا يستطيع العلم وصفه بدقة.

يتميّز الفن بأنه يقدّم نموذجاً للمعرفة يعتمد على الرؤية الشعورية لا على البرهان المنطقي. فالحقيقة التي يكشفها الفن لا تُعطى في صورة مفاهيم، بل في شكل صور وأصوات وإيقاعات. هذه الحقيقة غير قابلة للاختزال إلى معادلات، لكنها تضيف إلى الوعي بعداً لا يمكن الاستغناء عنه. ولذلك يمكن القول إن الفن يكشف عن معرفة ناعمة مقابل المعرفة العلمية الصلبة.

لا يقوم الفنان بعملية نسخ للواقع، بل يعيد تأويله، وبالتالي فهو يؤسس لفضاء معرفي قائم على إنتاج المعنى لا استعادته. ومن هنا يصبح العمل الفني أداة للفهم، إذ يتيح لنا إدراكاً أعمق للطبيعة الإنسانية، ولمآزق الوجود، وللمعاني التي تتجاوز اللغة العلمية.

ثانياً: الموقف الفلسفي من علاقة الفن بالمعرفة

عرفت الفلسفة عبر تاريخها مواقف متعددة من الفن. أفلاطون، مثلاً، اعتبر الفن محاكاة للمحاكاة، لأنه يحاكي عالم الظلال لا عالم المثل. كان يرى أن الفن بعيد عن الحقيقة لأنه يعتمد على الانفعال ويؤثر في النفوس. لكن تلميذه أرسطو سيقلب هذا التصور حين اعتبر الفن محاكاةً تكشف ما يمكن أن يكون، لا فقط ما هو كائن، وهذا يمنح الفن وظيفة معرفية تفتح المجال للتخييل باعتباره قوة إدراكية.

في الفلسفة الحديثة، أعاد كانط الاعتبار للتجربة الجمالية، معتبراً أنها تمنح العقل القدرة على إصدار الأحكام دون الاعتماد على المفاهيم القطعية، لأن الذوق لا يُختزل إلى قواعد عقلية. هذه المساحة الحرة بين الخيال والفهم هي التي تمنح الفن قوة معرفية فريدة.

أما هيغل فذهب أبعد، حين اعتبر الفن مرحلة من مراحل الروح المطلقة، يمكن من خلالها إدراك الحقيقة في صورة حسية. وهكذا يمثّل الفن في منظومتـه شكلاً من أشكال الوعي، إلى جانب الدين والفلسفة.

وفي فلسفات القرن العشرين، أعاد نيتشه الاعتبار للقوة الجمالية التي تمنح الوجود معناه. بينما اعتبر غودمان أن الأعمال الفنية "طرق لخلق عوالم"، أي أنها ليست مجرد تمثيل للعالم، بل صياغة جديدة له.

ثالثاً: المعرفة الفنية مقابل المعرفة العقلية

لا يمكن اختزال المعرفة في المنهج العلمي وحده، لأن العقل لا يستطيع التعامل مع كل جوانب الوجود. فهناك تجارب لا يمكن تفسيرها إلا عبر الفن، مثل تجربة الألم، الحب، الفقد، الزمن الداخلي، الذاكرة، والهوية.

في هذا السياق، يمكن التمييز بين نوعين من المعرفة:

  1. المعرفة البرهانية
    تقوم على المنطق والسببية والإثبات والتجريب.

  2. المعرفة الوجدانية أو الجمالية
    تقوم على الحدس، الانفعال، التخييل، والاستعارة.

لكن هذين النمطين لا يتعارضان، بل يتكاملان. فالمعرفة الجمالية تعيد للإنسان توازنه، لأنها تمنحه قدرة على إدراك ما هو غير قابل للقياس أو الاختزال.

الفن يوسع الإدراك لأنه يجعلنا ندرك العالم من الداخل، لا كموضوع خارجي. فنحن لا نرى اللوحة فقط، بل نرى رؤيتنا فيها، ونسقط عليها ذاكرتنا وتجاربنا. هنا يتحول الفن إلى مرآة للوعي، وإلى فضاء لإعادة إنتاج الذات.

رابعاً: الفن كأداة لكسر اليقين الإبستمولوجي

منذ القرن العشرين، أصبح الفنان يشبه الفيلسوف الذي يزعزع يقين العالم. فمارسل دوشامب، بعرضه للمبولة الشهيرة كعمل فني، لم يصدم الذوق العام فقط، بل ضرب سؤال المعرفة ذاته: ماذا يمكن أن نعرف عن الفن؟ وكيف نحدد ماهيته؟ ومن يقرر القيمة؟

هذا النوع من الأعمال لا يقدّم جمالاً حسياً، بل يقدّم سؤالاً إبستمولوجياً عارياً، لأنه يجعلنا نعيد النظر في علاقتنا بالمعايير.

الفن الحديث إذن لم يعد مجرد تعبير عن الذات، بل أصبح تفكيكاً للمعرفة. وهنا يلتقي مع الفلسفات النقدية التي تدعو إلى مساءلة المعايير، مثل التفكيكية عند جاك دريدا، أو نقد الحداثة عند أدورنو.

خامساً: الفن في عصر الذكاء الاصطناعي وتحوّلات المعرفة

في العصر الرقمي، أصبح العالم يغرق في البيانات. المعرفة تبدو وفيرة وسهلة، لكن الوعي أصبح أقل عمقاً، لأن الحقائق تُقدَّم جاهزة. هنا يظهر دور الفن أكثر ضرورة من أي وقت مضى.

الفن يعيد إدخال الدهشة إلى التجربة الإنسانية. الذكاء الاصطناعي يستطيع محاكاة الأسلوب، لكنه لا يستطيع إنتاج التجربة الذاتية. لذلك يبقى الفن مجالاً لاختبار النوعية الداخلية للمعرفة، تلك التي تتجاوز الأرقام إلى المعنى.

وبينما تسعى الخوارزميات إلى التنبؤ بالسلوك البشري، يتيح الفن مساحة لحرية غير قابلة للإحصاء. إنه مقاومة معرفية ضد اختزال الإنسان إلى بيانات.

خاتمة

يتبين من خلال هذه الدراسة أن الفن ليس مجالاً ترفيهياً أو جمالياً فحسب، بل هو نظام معرفي متكامل يسهم في توسيع إدراك الإنسان للعالم ولنفسه. فبينما تهتم الإبستمولوجيا بتحليل شروط الحقيقة، يعيد الفن تشكيل هذه الحقيقة عبر التجربة الحسية والوجدانية، مقدماً معرفة بديلة لا تقل عمقاً عن المعرفة العقلية.

الفن إذن ليس على هامش الفلسفة، بل في قلبها؛ وليس مجرد تمثيل للعالم، بل طريقة في رؤيته وخلق عوالم جديدة. ومع تطور التكنولوجيا وتراجع التجربة الإنسانية المباشرة، يصبح الفن أكثر أهمية كمساحة للتأمل والتساؤل وإعادة بناء الوعي.

مراجع في الهامش

  1. أفلاطون: الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، دار المعارف.

  2. أرسطو: فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، الوكالة العربية للكتاب.

  3. إيمانويل كانط: نقد ملكة الحكم، ترجمة جميل صليبا، دار الطليعة.

  4. هيغل: محاضرات في الجماليات، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة.

  5. نيتشه: ميلاد التراجيديا، ترجمة فليكس فارس، دار الجيل.

  6. Nelson Goodman, “Ways of Worldmaking”, Hackett Publishing.

  7. Theodor Adorno, “Aesthetic Theory”.

  8. Jacques Derrida, “La Vérité en peinture”, Éditions Flammarion.


0 التعليقات: