ما إن نتأمل المشهدَ الثقافيَّ في المغرب، حتى تنفتح أمامنا خرائطُ واسعةٌ من الألوان والأصوات والرموز، يأتلف فيها القديمُ مع الجديد، ويتجاور فيها الحنينُ والحداثةُ كما لو كانَا نهرين يتدفقان في مجرى واحد. وفي هذا التدفّق العميق يولد سؤالُ اللحظة: كيف تحوّلت الفنونُ والحِرَفُ التراثيّةُ، بكل ما تختزنه من ذاكرةٍ وأصابعَ وروائحَ وصبرٍ إنسانيٍّ ممتدّ، إلى قوّةٍ رمزيّة للدولة، وإلى ذراعٍ طويلة تُمارس بها نوعًا من الدبلوماسية الناعمة التي تتسرّب إلى قلوب الشعوب قبل أن تطأ أقدامُ السياسيّين أرض الآخر؟
إنّ الحديث عن الدبلوماسية الناعمة ليس جديدًا في ذاته، فقد خاض فيه الكثيرون، من جوزيف ناي إلى منظّري العلاقات الدوليّة، لكنّ جوهره في السياق المغربي يختلف؛ لأنّه لا يقوم على الترويج لقوّة اقتصاديّة صلبة، ولا على تهديد عسكريّ، بل على شيءٍ أكثر رهافةً، وأشدّ قدرةً على اختراق الوجدان: الفنُّ. التراث. الحكاية. اللمسات الأولى لصانع الفخار، وارتجاج الإزميل فوق خشب العرعار، وذبذبة ريشة المنمنم المغربي فوق الورق، والعطر الصوفي لنقوش الزليج التي ترى فيها الدنيا تتكسّر إلى نجوم صغيرة ثم تتجمع في سماء واحدة.
الفنونُ والحِرَفُ بوصفها ذاكرةً حيّة للدولة
لا يمكن لأيّ بلدٍ في العالم أن ينهض دون ذاكرةٍ، ولا يمكن لثقافةٍ أن تبني صورتها الخارجيّة دون أن تستند إلى شيءٍ متجذّر في تربتها. والمغرب، بتنوّعه الحضاري الممتد من أعماق الأمازيغ إلى أنفاس الصوفيّة، ومن نبَضِ الصحراء إلى نسيم المتوسط، يملك ما يندر وجوده في بقاعٍ أخرى: فسيفساء من الحرف التي لا تُشبه إلا نفسها.
إنّ مجرّد النظر إلى مدينةٍ مثل فاس أو مراكش أو الصويرة يكفي ليُدرك المرء معنى أن يتحوّل التراثُ إلى كائنٍ حيّ. فهنا، لا تَغيب الحِرَفُ كي تُعرَض في المتاحف فقط، بل تُمارَس في الأزقّة، وتتنفّس في الورش، وتُسمَع في نقر المطرقة، وتُرى في عيون صانعي الجلد والنحاس والخشب والحجر. ولعلّ ما يميّز الحرفي المغربي ليس مجرّد المهارة اليدويّة، بل تلك الفلسفة التي تُجسّد علاقة عميقة بين الإنسان و"مهنته"؛ علاقة فيها من الطقوس ما يكفي لاعتبار العمل اليدوي ضربًا من التصوّف.
هذه الحرف ليست آثارًا ورقيّة، ولا مجرّد ذكريات، بل رأسمال رمزيّ يتسلّل إلى سردية الدولة الحديثة. فحين تقدّم المغرب نفسه للعالم، فإنه لا يفعل ذلك فقط بوصفه بلدًا للسياحة أو للاستثمارات، بل بوصفه بلدًا يحمل إرثًا فنيًا وإنسانيًا عمره قرون. وهذا الإرث نفسه هو الذي يتحوّل، بقليل من الحكمة وكثير من الرؤية، إلى لغةٍ دبلوماسيّة ناعمة.
الدبلوماسيّة عبر الجمال: حين يصبح الفنّ رسولًا
في زمنٍ يزداد فيه الصراعُ السياسيّ صلابة، تكشف التجربة الدوليّة أن أكثر ما يبقى في ذاكرة الشعوب ليس ما تقوله البيانات الرسميّة، بل ما تبوح به الفنون. وقد أدرك المغرب مبكرًا أن الدبلوماسية لم تعد مجرّد قاعات مغلقة، وأنّ الأقمشة التقليدية، والسجاد الريفي، والخزف الفاسي، والنقش الأمازيغي، قد تنجح أحيانًا في فتح أبوابٍ يُغلقها الكلام السياسي.
فلماذا يجد الأوروبيون في الجلباب المغربي سحرًا بصريًا؟ ولماذا يتهافت اليابانيون على الزليج؟ ولماذا تبهر الحرفُ المغربية خبراء الفنّ المعاصر في معارض باريس وبرلين ودبي؟ لأنّ هذه الصناعات ليست منتجاتٍ جامدة، بل سرديّات كاملة تنتقل من يدٍ إلى يد، ومن جيلٍ إلى جيل، وتُجسّد ذاكرةَ شعبٍ كامل. والدبلوماسية الحقيقية هي التي تُقدّم سرديّة أمّة لا مجرّد سلعة.
هناك شيء يلمسه المرء حين يشاهد احتفال التبوريدة، أو يسمع آلة الكمبري في ليلة كناوية، أو يتأمّل خيوط الزرابي الأطلسية: شيءٌ يجعل المغرب يتكلّم بلا كلمات. وهذه القدرة على الكلام من دون كلام هي جوهر الدبلوماسية الناعمة.
المهرجانات كقنوات دبلوماسية: من مراكش إلى الرباط
لم يعد غريبًا أن تتحوّل المهرجانات الثقافية الكبرى إلى مجالس حوار بين الأمم. فمهرجان مراكش الدولي للفيلم، مثلًا، ليس مجرّد كرنفال سينمائي، بل لقاء بين رؤى العالم، ومختبرًا رمزيًا تُعيد فيه الدولة تشكيل صورتها عبر الفن السابع. وكذلك مهرجان الموسيقى الروحية في فاس الذي يوفّر سنويًا منصةً تتلاقى فيها المقامات الصوفية من المغرب مع أصداء الثقافة الهندية والبيزنطية والأفريقية، فيخلق كونيّة جديدة تشبه خريطة الروح.
أما الرباط، عاصمة الأنوار، فقد نجحت في السنوات الأخيرة في إعادة تعريف العلاقة بين المدينة والفن عبر مبادرات إنتاجية، ومعارض دولية، وبرامج ثقافية مفتوحة، جعلت من الثقافة خطابًا حضاريًا مغربيًا يتجاوز الحدود.
هذه المهرجانات وغيرها ليست أحداثًا عابرة، بل أدوات دبلوماسية ناعمة تتقاطع فيها السياسة بالفن، والهوية بالسياحة، والتراث بالاقتصاد الثقافي.
التراث كقوّة اقتصادية ورمزية في آنٍ واحد
لا يمكن الحديث عن الدبلوماسية الناعمة من دون الإقرار بأنّ التراث المغربي تحوّل خلال العقدين الأخيرين إلى قوة اقتصادية حقيقية. فالحرف التقليدية لا تُصدَّر فقط بوصفها منتجات، بل كحكايات تُروى. والسائح الذي يشتري قطعة خزف أو مجوهرًا فضّيًا لا يقتني سلعة، بل يقتني جزءًا من ذاكرة بلاد.
ولعلّ هذا الوعي الاقتصادي-الثقافي هو ما يجعل المغرب يستثمر بشكل متزايد في قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية، مع فتح مجالات أمام الشباب، وتطوير مراكز التكوين الحرفي، وربط التراث بالتصميم العصري، ليظل قديمًا وجديدًا في آن.
التحديات: ما الذي يواجه الدبلوماسية الناعمة؟
غير أن الطريق ليس مفروشًا بالورود دائمًا. فهناك تحديات كبيرة، منها:
-
هيمنة العولمة التجارية على الذوق الفني.
-
فقدان بعض الحرفيين بسبب تراجع الإقبال أو ضعف الدعم.
-
السوق الموازية التي تغزوها منتوجات تُقلّد التراث المغربي دون أصالته.
-
صعوبة تحويل الجمالية التراثية إلى لغة سياسية عالمية مستدامة.
ومع ذلك، فإن هذه التحديات لا تُلغي القيمة العميقة التي يملكها المغرب، بل تفتح أمام الدولة والمجتمع المدني فرصًا لمزيد من التنظيم والإبداع، ولتجديد دماء الحرف عبر مدارس متخصصة، وشراكات دولية، ورؤية استراتيجية تُعيد للتراث مكانته في الدبلوماسية.
مستقبل الدبلوماسية الناعمة المغربية: نحو هوية عالمية جديدة
إنّ الرهانات المستقبلية كبيرة، لكنها واضحة. فالدبلوماسية الناعمة المغربية قادرة على أن تكون لاعبًا قويًا في محيط عالمي متحوّل، إذا ما واصلت الاستثمار في:
-
الفنون البصرية: من مدارس الفنون إلى المعارض الدولية.
-
التراث اللامادي: مثل فن الحلقة، الكناوة، الملحون، والعادات الشعبية.
-
رقمنة التراث: فتح المجال للتعريف بالحرف عبر منصات عالمية.
-
الصناعات الإبداعية: ربط الحرف بالتصميم المعاصر والأزياء العالمية.
-
التعليم الفني: خلق جسور بين الجامعات والمعاهد الحرفية.
بهذه الخطوات يمكن للمغرب أن يحوّل تراثه من "ماضٍ جميل" إلى "مستقبل مؤثر"، وأن يجعل من الدبلوماسية الناعمة قوة لا تقل فاعلية عن أي قوّة اقتصادية أو سياسية.
خاتمة
يبدو المغرب اليوم كمن يمشي بين الماضي والمستقبل بخفة حاذقة، حاملاً في يده مفتاحًا منقوشًا بالزليج، وفي اليد الأخرى زهرة ياسمينٍ من أحياء فاس القديمة. وفي هذا المشي الهادئ تنكشف فلسفة دولةٍ فهمت مبكرًا أنّ الجمال يمكن أن يكون سياسة، وأن الفن يمكن أن يكون سفيرًا، وأن التراث يمكن أن يكون، برهافته وعمقه، إحدى أقوى لغات النفوذ في عالمٍ يتغيّر بسرعة.
ولذلك، فإنّ الدبلوماسية الناعمة المغربية ليست مجرد ترف ثقافي، بل هي مشروع حضاريّ طويل المدى، تُسهم فيه الدولة والفنانون والحرفيون، وتتلاقى فيه الأجيال، ليرتفع صوت المغرب في العالم لا بوصفه قوة تبحث عن الاعتراف، بل بوصفه ذاكرة حيّة تواصل كتابة نفسها في دفتر الإنسانية.
— عبده حقي








0 التعليقات:
إرسال تعليق