الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، ديسمبر 04، 2025

فتر الأمان الرقمي: العقود الذكية وضمان أجور الصحفيين المستقلّين: عبده حقي

 


في كلّ مرّة يفتح فيها الصحفي المستقلّ حاسوبه ليبعث تقريرًا من منطقة نائية أو مدينة تطفو على التوتر، يشعر كأنّه يضع جهده فوق ميزان هشّ؛ ميزان لا يضمن أن يصل أجره في الوقت المتفق عليه أو أن يحصل عليه أصلًا. هذه الهشاشة ليست جديدة، لكنها ازدادت حدّة مع اتساع اقتصاد العمل الحر، وظهور فجوات قانونية ومالية تُبقي الصحفي، مهما كانت خبرته، في موقعٍ أقرب إلى مقامرٍ ينتظر تحصيل حقّه أكثر مما ينتظر تقييم مقاله. وهنا تتقدّم العقود الذكية—بذلك الوميض الذي يجمع بين صرامة القانون وحياد الخوارزمية—كأنّها نافذة جديدة تُعاد عبرها كتابة قواعد الثقة.

تكشف تقارير لجنة حماية الصحفيين (CPJ) خلال السنوات الأخيرة عن تزايد الشكاوى المتصلة بتأخّر الدفع أو التلاعب بشروط العقود، خاصة لدى المؤسسات العابرة للحدود. ولا تختلف شهادات العاملين في المنصّات الرقمية عن نظيراتها في الصحافة التقليدية؛ فكلّهم يشيرون إلى التعقيدات ذاتها: عدم التكافؤ في القوة، الشروط المبهمة، وصعوبة ملاحقة المؤسسات التي توجد على بعد آلاف الكيلومترات. وقد وصف الصحفي الأميركي جيف جارفيس في كتابه What Would Google Do? هذا التحوّل بأنه أحد أكبر تحديات الإعلام الجديد: “فالعامل المستقلّ يعيش دائمًا في منطقة رمادية من القانون”.

تطرح العقود الذكية هنا مقاربة مختلفة. فهي ليست عقدًا بالمعنى الورقي التقليدي، ولا وعدًا أخلاقيًا مشروطًا، بل هي بنية برمجية تعتمد على تقنية البلوك تشين، تعمل كما تعمل ساعة سويسرية لا تعرف المجاملة ولا التأجيل. ما إن يرفع الصحفي مادته التحريرية، ويجتاز التقييم المتفق عليه، حتى يتحرّك العقد تلقائيًا لتحويل المستحقات، دون أن تلمس يد بشرية زرّ الموافقة. إنّها علاقة تشبه إلى حدّ بعيد حركة المياه في قنوات الريّ القديمة: ما دام الساقي قد فتح البوّابة، فإنّ الماء سيصل، مهما كانت المسافة.

لكنّ الأهمية لا تنحصر في الدفع الفوري، بل تمتدّ إلى مبدأ الشفافية. فكلّ خطوة تُسجَّل في سجل رقمي موزّع، لا يمكن تعديله، ولا يمكن لمؤسسة إعلامية أن تُنكر بنودًا أو تُغيّر مواعيدًا بمراسلة عابرة. وقد أشارت دراسة حديثة صادرة عن MIT Media Lab إلى أنّ اعتماد الصحفيين المستقلّين على العقود الذكية يقلّل من النزاعات المالية بنسبة تتراوح بين 40% و60%، خاصة في القطاعات ذات الإيقاع السريع مثل الصحافة الاستقصائية وصحافة البيانات.

ولعلّ من أبرز التطبيقات التي بدأت تلفت الانتباه منصة Civil قبل بضع سنوات، والتي سعت إلى بناء نظام بيئي للصحافة يعتمد على البلوك تشين لضمان الاستقلالية والتمويل. ورغم تعثّر التجربة، فإنّها كشفت عن قابلية هذا النموذج للنمو والتطوير، خاصة مع دخول مؤسسات إخبارية أوروبية في مشاريع تجريبية جديدة خلال العامين الأخيرين. بل إنّ الغارديان ودير شبيغل ناقشتا هذه الإمكانية بوضوح في تقاريرهما عن مستقبل غرف الأخبار الرقمية.

ورغم هذا التفاؤل، ليس الطريق مفروشًا بالوعود وحدها. فالعقود الذكية تحتاج إلى درجة عالية من الدقّة في صياغة شروطها، وإلى بنية قانونية دولية تعترف بها، وإلى وعي تقني لدى الصحفيين والمنصّات. كما أنّ غياب عنصر “المرونة” الذي يتيحه التفاوض التقليدي قد يجعل بعض النزاعات أكثر تعقيدًا، تمامًا كما يحدث عندما نغلق بابًا كان ينبغي تركه مواربًا قليلًا.

ومع ذلك، يميل مستقبل الصحافة الحرة إلى الانحياز لهذه الأدوات؛ ليس لأنها تُنقذ الصحفي من جشع صاحب العمل فقط، بل لأنها تمنح المهنة جزءًا من كرامتها المفقودة. فالعقد الذكي لا يرى لون الصحفي، ولا جنسيته، ولا موقعه الجغرافي، بل يرى فقط العمل الذي أنجزه. وفي عالم تتقاطع فيه الخوارزميات مع هشاشة البشر، قد يكون هذا الشكل من الحِياد هو ما نحتاجه لاستعادة معنى العدالة المهنية.

بهذا المعنى، تبدو العقود الذكية ليست مجرّد تقنية أخرى في سوق مزدحمة، بل دفتر أمان جديد، يعيد للصحفي المستقلّ مكانته باعتباره طرفًا شريكًا لا تابعًا، ويحوّل مبدأ “الأجر مقابل العمل” من شعار أخلاقي متذبذب إلى حقيقة رياضية لا تقبل التأويل. وربما، كما قدّمت الطباعة يومًا ثورة في توزيع المعرفة، تستطيع العقود الذكية أن تُطلق ثورة صامتة في توزيع الحقوق.

0 التعليقات: