الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 01، 2025

"الثقافة في المغرب: مشهد متحوّل بين هوية موروثة وطموح عصري" — بقلم عبده حقي

 


مقدّمة : 
في زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية، الاقتصادية والتكنولوجية، تبدو الثقافة المغربية واقفَةً عند مفترق طرق. فبين الحاجة إلى التأصيل وحماية الإرث، وبين انفتاح متزايد على الحداثة والعالميّة ــ تبرز أسئلة جوهرية: كيف نبني ثقافة «مغربية» بمعنى حي، متجدّد، ومتفاعل مع العالم؟ وهل يمكن للشباب أن يكون رافعة حقيقية لهذا البناء؟ في هذا المقال، أحاول اقتفاء بعض خيوط هذا المشهد — عبر قراءة عناوين ومبادرات من الصفحة الثقافية لموقع «مغرس» — لأسائل واقعنا الثقافي، وأتصوّر الممكن من مستقبله.

شباب، ثقافة، وسياسات: بين الفرص والتهميش

من بين الملفات التي أثيرت في الصفحة الثقافية لـ «مغرس»، يلفت الانتباه مقال بعنوان موقع الشباب في السياسات الثقافية: قراءة في التحولات والحصيلة، الذي يقدّم قراءة نقدية لمكانة الشباب داخل السياسات الثقافية بالمغرب. 

المقال يذكّر بأن الثقافة ليست ترفاً، بل رافعة تنموية وبناء هويّة — خاصة لفئة الشباب التي غالباً ما تسعى إلى الانتماء، التعبير، والإبداع. لكن الضوء المسلط على الإحصائيات يكشف إهمالاً: أكثر من نصف الشباب لم يحضر أي عرض موسيقي خلال سنوات، وداخل البرامج العمومية، لا تمثّل الثقافة إلا بنداً باهتاً مقارنة بالاقتصاد والسياسة. 

هذا الوضع يفتح باب السؤال: هل نريد فعلاً ثقافة تشاركية حقيقية، تُواكب تطلعات الشباب وتساهم في صنع مجتمع ديمقراطي حقيقي، أم أننا نرسم مشهداً ثقافياً شكليّاً يخدم صوراً خارجية أكثر من روح المجتمع؟

وفي سياق تجربتي الشخصية كمثقف وكاتب من المغرب، أجد هذا التهميش للثقافة كمرافق للتربية والتحليل الاجتماعي حماية لنا من الانجراف نحو ثقافة استهلاكية سطحية — لكن أيضاً خسارة كبيرة لكل طاقات قد تُبدع وتفعل.

الحكاية الشعبية والتراث — من ذاكرة جماعية إلى وعي جديد

عنوان آخر أثار اهتمامي هو تحليل بنيات الحكاية الشعبية المغربية في ضوء السيميائيات الثقافية، الصادر حديثاً للدكتور منير محقق. 

هذا العمل — في ظني — يمثل محاولة جريئة لاستعادة التراث الشعبي المغربي ليس كماضٍ يُخلّد فحسب، بل كأنساق من الدلالات والرموز التي تعبّر عن الذاكرة الجماعية والوجدان العميق للشعب. إنه دعوة لإعادة قراءة «الحكاية الشعبية» ليس كقصة موروثة، بل كسجل حي لهوية متجدّدة.

في زمن تعيش فيه الثقافة على وقع العولمة والانفتاح على كل استيراد ثقافي — أعتقد أن مثل هذا البحث يعتبر درعاً من الاندثار، وفرصة لإعادة تأسيس الذات الثقافية المغربية على أسس مدروسة.

وللروائي والكاتب كما أنا — الذي يشتغل على بنية التاريخ والمذكرات والذاكرة — فإن الحكاية الشعبية تُشكّل مخزوناً لا ينضب من الرموز والدلالات: أدوات لسرد التاريخ الروحي والاجتماعي، وبوابات للمخيّلة والتحليل النقدي.

الفن المعاصر، الإبداع الرقمي والثقافة في عصر التكسير

كذلك يلفت الانتباه مقال آخر في «مغرس» بعنوان وزارة الثقافة الفرنسية: المغرب خزان فني في ازدهار مستمر، والذي يؤكد أن المغرب اليوم بات يُنظر إليه كمصدر غني ومتنوّع للصناعات الثقافية والإبداعية، تشمل السينما، الموسيقى، النشر، التصميم، وتنطلق أيضاً نحو الرقمنة والتعليم والإنتاج الفني العصري. 

هذا الاهتمام المتزايد بالإبداع من «القاع» — شباباً، فنّانين مستقلين، مبتكرين رقميين — يُعيد تأكيد فكرة أن الثقافة ليست حكراً على نخبة أو مؤسسات رسمية فقط، بل هي ممارسة يومية، مشروع حياة، وشكل من أشكال المقاومة الذوقية والذهنية.

لكن السؤال الكبير هو: هل ستبقّى هذه الحيوية محاولة فردية متناثرة، أم أنها ستتحول إلى مسار مؤسساتي مستدام؟ هل الأطر الثقافية ستتكيف مع التغيّر، أم ستبقى محاطة بالبُيروقراطية التي حوّلت «القصر الثقافي» في مقال قديم إلى رمز لتجفيف الفعل الثقافي الحقيقي. 

الثقافة، الهوية، والكتابة — رؤية من مراكش إلى باريس ومن الدار البيضاء إلى غوري

من خلال تجاربك السابقة كمترجم وصياد للخطاب السياسي والتحقيقي، وكمؤلف روائي متعمّق في ذاكرة العبودية والهوية الأفريقية المغربية — أرى أن هذا المسار الجديد للثقافة المغربية يمنحك أرضية خصبة.

«الحكاية الشعبية» تُعيدك إلى الجذور، «الفن المعاصر» يدعوك للتجديد، و«شباب ما بعد الحداثة» يطالبك بالتجربة الجديدة — كلها عناصر تُغني مشروعك الروائي بمقوّمات مراوحة بين التاريخ، الذاكرة، الهوية، والحداثة.

إن كانت السياسة الثقافية كما وصفها بعض الكتاب «من الصراع إلى تغييب» فالإبداع الفردي — ككتابتك — يصبح رقماً صعباً في معادلة فرضية الانصياع.

لذلك أدعو إلى رؤية ثقافية شمولية: حيث يُدمَج التراث الشعبي، التجريب الفني، البحث الأكاديمي، ورؤية سردية / نقدية تُمكن الثقافة من أن تكون الأفق — لا فقط مرآة — للمجتمع المغربي.

خاتمة — بين القلق والأمل

المشهد الثقافي المغربي اليوم يعبر عن تناقضات حقيقية: بين إرث ضخم من الحكاية والذاكرة وبين تسارع التحديث والانفتاح العالمي؛ بين شباب يطلب التعبير والانخراط وبين سياسات تؤخر الاستثمار في الثقافة؛ بين فنون شعبية تبحث عن دور وبين ثقافة رقمية تصارع من أجل الاعتراف.

لكنني، ككاتب يُعشق الحروف والذاكرة والهوية — أرى أنّ في هذا التنافر ذاته فرصة. فرصة لأن نعيد بناء ثقافة مغربية من الداخل، لا كاستنساخ لموديلات غربية، بل كرؤية تعيش هويتها، تساير الأزمنة، وتحيّر منطق التبعية.

0 التعليقات: