يشهد اليوم الأوّل من دجنبر ٢٠٢٥ حركة ثقافية لافتة في المغرب. ففي الدار البيضاء يتواصل عرض الفيلم التجريبي Put Your Soul on Your Hands and Walk داخل قاعة سينمائية تابعة لأحد الفضاءات الثقافية الأجنبية، في إطار برمجة تمتد لثلاثة أيام. هذا النوع من البرامج السينمائية يمنح الجمهور المغربي فرصة الاحتكاك بتجارب بصرية مختلفة عن السائد التجاري، حيث يقترب العمل من سينما المؤلف، ويعتمد على بناءٍ بصري وتأملي أكثر منه حكائي مباشر، مما يفتح نقاشًا حول علاقة الجسد بالمدينة وبالزمن في المتخيّل السينمائي المعاصر.
وفي الرباط يلتئم مساء اليوم روّاد النادي السينمائي في أمسية تمتد من السابعة والنصف إلى العاشرة والنصف لعرض فيلم تتبعه مناقشة. هذه الأمسيات، وإن بدت بسيطة في شكلها، فإنها تشكّل مدرسة حقيقية لتكوين ذائقة نقدية لدى الجمهور، إذ يتحوّل فيها المتفرّج من متلقٍّ صامت إلى مشارك في قراءة الصورة، يسائل الاختيارات الإخراجية، ويقارن بين ما يراه على الشاشة وما يعيشه في واقعه اليومي.
في العالم العربي، تستقبل القاهرة حفلًا موسيقيًا بعنوان “الجسر الموسيقي الفنلندي–المصري” تحتضنه دار الأوبرا المصرية. على الخشبة يلتقي موسيقيّون من فنلندا بموسيقيين مصريين في توليفة أوركسترالية تمزج بين التقاليد السيمفونية الأوروبية والحسّ اللحني الشرقي. مثل هذه المشاريع العابرة للثقافات لا تقدّم مجرّد حفل موسيقي، بل تطرح سؤال الحوار الفني في زمن التوتّرات، وتؤكد أن اللغة الموسيقية قادرة على بناء جسورٍ حيث تعجز السياسة عن ذلك.
وفي لبنان، تنطلق من بيروت رحلات ثقافية إلى معابد بعلبك وكهوف كسّارة، لتعيد وصل الجمهور بتاريخ فريد من نوعه في المنطقة. فزيارة معابد بعلبك ليست نزهة سياحية عابرة، بل هي دخول في طبقات الزمن المتراكب؛ أعمدة رومانية شاهقة تحرسها ذاكرة الحروب والحفلات الموسيقية الكبرى التي مرّت من هناك، فيما تمنح الكهوف الطبيعية في كسّارة بعدًا بيئيًا وروحيًا للتجربة نفسها، وتحوّل اليوم الثقافي إلى لقاء بين التاريخ والطبيعة والإنسان.
على مستوى القارّة الإفريقية، يشكّل مهرجان لاغوس للكتاب والفنون واحدًا من أهم المواعيد الثقافية اليوم. المهرجان الذي يوصف أحيانًا بـ"عيد القراءة" في نيجيريا يجمع كتّابًا وفنّانين وناشرين وفرقًا موسيقية في فضاء واحد، حيث يتجاور توقيع الكتب مع عروض الشعر والدراما والموسيقى. اليوم من أيام المهرجان يشهد نقاشات حول دور الأدب في زمن التحوّلات الرقمية، إلى جانب معارض للفن التشكيلي تجعل من لاغوس مختبرًا حيًا لعلاقة الثقافة الإفريقية بالتحوّلات الاجتماعية الراهنة.
وفي جنوب إفريقيا، يستقبل فضاء فني في كيب تاون معرض Norval Sovereign African Art Prize الذي يقدّم أعمالًا مختارة لفنانين من مختلف بلدان القارة. المعرض لا يكتفي بعرض اللوحات والمنحوتات، بل يحوّل الفضاء إلى خريطة بصرية لإفريقيا المعاصرة: قضايا الهوية ما بعد الاستعمار، الذاكرة والاستعمار، المدن المتحوّلة، وأثر الهجرة في الأجساد والوجوه. حضور الجمهور هذا المساء يشبه الدخول إلى أرشيف مفتوح لأسئلة الفن الإفريقي اليوم، حيث تتجاور الحساسية الجمالية مع النقد السياسي والاجتماعي.
في ألمانيا، تحتضن برلين حفلًا لفرقة Agitation Free في قاعة Kesselhaus. تعود هذه الفرقة المرتبطة بتاريخ "الروك الفضائي" الألماني إلى الخشبة بحفل يقوم على الارتجال، وعلى موسيقى إلكترونية-غيتارية تستحضر تراثًا كاملاً من التجريب الصوتي الذي ظهر في ألمانيا منذ سبعينيات القرن الماضي. الأمسية ليست مجرد استعادة حنينية لماضٍ موسيقي، بل هي محاولة لتحديث ذلك التراث وإعادة تقديمه لجيل جديد تعوّد على الصوت الرقمي المضغوط أكثر من الحضور الحي للأداء الموسيقي.
في إسبانيا، تقف مدريد الليلة على إيقاع حفل للمغني البريطاني Tom Odell في قاعة WiZink Center، ضمن جولة The Wonderful Life Tour. جمهور واسع من مختلف الأعمار يتابع هذا الحفل الذي يمزج بين الأغنية الحميمية المتمحورة حول البيانو وبين حسّ البوب المعاصر. حضور هذا النوع من الحفلات في مدينة مثل مدريد يعكس كيف أصبحت العواصم الأوروبية منصّات دائمة للدورات العالمية للفنانين، بحيث تتحول القاعة نفسها إلى نقطة التقاء عابرة للحدود بين المعجبين القادمين من مناطق مختلفة من إسبانيا وأوروبا.
أما في البرتغال، فتفتح فضاءات الفن في لشبونة أبوابها على مصراعيها. في فضاء prisma.lx يحتضن اليوم يومًا مفتوحًا لمعرض فنّ معاصر، حيث يمكن للزائر أن يتنقل بحرية بين الأعمال المركّبة واللوحات والتجهيزات البصرية في قلب أحد أحياء المدينة القديمة. المعرض يقدّم مشهدًا عن لمدينة تتجدد من الداخل، إذ تتحوّل البنايات القديمة إلى مختبرات فنية تستضيف تجارب فنانين شباب. وفي الوقت نفسه، تنطلق رسميًا احتفالات “عيد الميلاد في لشبونة” التي تمتد لأسابيع، بأضواء تزيّن شوارع وسط المدينة وأسواق مفتوحة وحفلات في الهواء الطلق في فضاء Wonderland Lisboa، حيث تتداخل المتعة السياحية مع الأجواء العائلية الدافئة.
في لندن، يفتتح اليوم عرض Rob Brydon & His Fabulous Band: A Festive Night of Songs & Laughter في مسرح من مسارح الوست إند. الممثل الكوميدي والمغني البريطاني المعروف يقدّم سهرة تجمع بين الفكاهة والأغنية، في تقليد إنجليزي عريق يمزج المسرح بالموسيقى في موسم الأعياد. هذا النوع من العروض يعكس جانبًا من "الصناعة الثقافية" البريطانية، حيث تتحوّل الفكاهة إلى منتوج مسرحي كامل الأركان، يجذب السياح وسكّان المدينة على السواء ويكرّس صورة لندن كواحدة من العواصم المسرحية الكبرى في العالم.
في إيطاليا، تستعد بولونيا لسهرة أوركسترالية رفيعة المستوى في Teatro Auditorium Manzoni. أوركسترا مسرح بولونيا البلدي، بقيادة Roberto Abbado، تقدّم برنامجًا يجمع بين كونشيرتو Der Schwanendreher لهندمث وسيمفونية شومان الثانية. هذا الاختيار البرنامجي يوازن بين روح الحداثة الموسيقية الألمانية وبين الرومانسية، ويمنح الجمهور الإيطالي فرصة إعادة اكتشاف أعمال تُعزف أقل من غيرها مقارنةً بالريبرتوار الشائع. في مثل هذه السهرات يترسخ دور الأوركسترا العمومية في جعل الموسيقى الكلاسيكية جزءًا من الحياة اليومية للمدينة، لا مجرد ترف نخبوي معزول.
وفي بلجيكا، تواصل بروكسيل احتفاءها بفن الآرت ديكو عبر برنامج ART DECO 2025 الذي يفتح اليوم أبواب متحف التصميم أمام الزائرين لاكتشاف أثاث وزخارف فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. ينتقل الزائر بين قطعٍ صنعت لبيوت ومباني بورجوازية، ليكتشف كيف ترجمت الهندسة والخطوط الهندسية والألوان المعدنية حلم الحداثة الأوروبية في بداية القرن الماضي. هذا التركيز على الآرت ديكو يعيد أيضًا قراءة تاريخ العاصمة البلجيكية نفسها، التي تشكّل واجهاتها ومبانيها أرشيفًا مفتوحًا لذلك الأسلوب المعماري.
في روسيا، ينعقد في قصر الكرملين حفل ضخم بمناسبة مرور خمسين سنة على الأغنية الشهيرة «يوم النصر – День Победы» المرتبطة بذاكرة الحرب العالمية الثانية في الوعي الروسي. يجتمع على الخشبة عدد من نجوم الغناء والأوركسترا والجوقات العسكرية، في سهرة لا تقتصر على الترفيه، بل تؤدي وظيفة رمزية قوية في إعادة إنتاج الرواية الرسمية عن النصر والحرب والذاكرة. يشكّل هذا النوع من الحفلات مثالًا واضحًا على كيف يمكن للموسيقى أن تكون أداة لتثبيت هوية وطنية ولغة سياسية في الآن نفسه.
في فرنسا، تحتضن قاعة بيير بولو الكبرى في فيلهرموني دو باري حفلًا سيمفونيًا لأوركسترا الشانزليزيه وجوقة Collegium Vocale Gent ببرنامج مخصّص لأعمال بيتهوفن. هذا اللقاء بين أوركسترا متخصّصة في الأداء التاريخي وجوقة عريقة يقدّم للمتلقّي الباريسي قراءة متجددة لموسيقى كلاسيكية جرى سماعها مرارًا، لكنّها تبدو جديدة كلما أعيد عزفها وفق مقاربات تفسيرية مختلفة. في مثل هذه الأمسيات، تتحوّل باريس إلى مختبر سمعيّ لكيفية استحضار التراث الموسيقي العالمي داخل هندسة قاعة معاصرة صُمِّمت خصيصًا لصوت الأوركسترا.
أخيرًا، في هولندا، يواصل متحف فان غوخ في أمستردام برمجته الخاصة بمعرض Van Gogh and the Roulins. Together Again at Last، مصحوبًا بأنشطة موجهة للأطفال والعائلات. اليوم تُنظَّم ورشات إبداعية تساعد الصغار على اكتشاف عالم فان غوخ من خلال اللعب والقصّ، فيتعرّفون على علاقته بعائلة رولان، وعلى رسائله، وعلى الطريقة التي حوّل بها مشاهد الحياة اليومية إلى لوحات خالدة. هذه البرمجة تجعل من المتحف فضاءً تربويًا لا يقتصر على المشاهدة، بل يشجع على أن يكون الطفل نفسه "مشاركًا في المعرض" عبر ما يصنعه بيديه من أعمال بسيطة تستلهم روح الفنان.
بهذه الصورة، يرسم اليوم الأوّل من دجنبر ٢٠٢٥ خريطة ثقافية متشابكة تمتد من الدار البيضاء والرباط إلى القاهرة وبيروت، ومن لاغوس وكيب تاون إلى برلين ومدريد ولشبونة ولندن وبولونيا وبروكسيل وموسكو وباريس وأمستردام؛ خريطة تقول إن العالم، رغم المسافات والاختلافات، يمكن أن يلتقي في مساء واحد تحت سقف الموسيقى والكتاب والسينما والمعارض والذاكرة.







0 التعليقات:
إرسال تعليق