الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أغسطس 17، 2015

قصتي مع مينسك إهداء إلى محمد زفزاف

قصتي مع مينسك إهداء إلى محمد زفزاف
كان قطار(مينسك) يمضي بنا شمالا .. إلى شماله الصقيعي .. الأبيض القفر.. كان يسيربنا رأسا مثل الريح .. لايلوي .. لايحط .. لاقاطرة في رأسه تفكرفي التوقف .. هوإذن قطاربلامحطات تذكرنا على الأقل بأننا بشر.. وأننا مسافرون فوق هذه الأرض مثل كل البشر.. وأننا جديرون بأن نستريح من هديرالمحرك وصليل العجلات لحظة... نستريح لكي نرنوإلى ملامح إغترابنا في مرايا مقصوراته التي شابها ضباب النسيان .. نشرب من نخب فودكانا الراعفة .. نقرأ جرائدنا الشيوعية المنسية التي أجلناها إلى لحظة توقف محتملة ...
كنا متقابلين نتبادل نظرات بلهاء وابتسامات تارة صفراء مثل الرياء وتارة بيضاء مثل راية السلم وتارة حمراء مقيتة مثل دم الأسنان ... وقطارنا كان يمضي شمالا باتجاه الربع الخالي من المنافي الجامدة.. يمضي كما يريد .. لاكما نريد لأن قدرنا كان أن يمضي كما أراد .. شمالا باتجاه الربع الصقيعي الخالي حيث نتلفع في قشعريرات الإغتراب ونبكي خطواتنا التي تتعثرفي الأرض الجليدية اليباب .. تعوي من حولنا ثعالب غابات (مينسك)
الخرساء ...
وكان زماننا كما قطارنا يمضي شمالا .. كنا نحسه جميعا زمنا ثقيلا .. شبيها بطقس الضغط الجوي .. شبيها بجلد الدجاج المدسوس تحت معاطفنا (الغوغولية) الرثة .
ـــ كنت المسافرالوحيد بينهم .. بسحنتي العربية الإفريقية السمراء .. وذقني اللينيني المستعار.. الممسوخ .
قلت في نفسي : ماحيلتي كي أنعتق من هذا السفرالقدري الموغل في تخوم البرد الشمالي .. أخرجت من حافظتي كتاب (أنطوان ماكارانكو) الموسوم ب (القصيدة التربوية) وألفيته مثل قطعة ثلج .. حشرت أنفي بين دفتيه .. سمعت ضجيجا بروليتاريا قديما .. ضجيج أقرب إلى سعال عمال المناجم منه إلى مرضى الربوعندهم في المدن الساحلية .. كانواعمالا بسحنات معفرة بأدخنة التكريروتفاهة التكرارفي غيران المناجم العميقة .. نسيت أنني صحفي مغربي أشتغل لجريدة حزبية يسارية باسم مستعارمثل ذقني اللينيني أعلاه .. جئت لأنجزربورتاجا عن بقايا السوفخوزات والكولخوزات في (مينسك) فخلت أنني كادح مثلهم .. إهتزت المقصورة .. مقصورة قطارنا القدري القديم فخيل إلي أنني أنزل أسانسيربئرالمنجم ــ أعني مقبرتنا الجماعية ـــ قدم لي المراقب قبعة صفراء لها مصباح واحد مثل عين رأس الغول .. فجأة قفزأحد الكادحين إلى حاوية القاطرة الواقفة على سكة المنجم ، وكان هديرالقطار في رأسي مايزال يذكرني بالشمال وزمانه وقاطرة المنجم تمضي بنا إلى عتمة الأعماق وفي لحظة نسيت تحقيقي الصحفي .. نسيت أنني صحفي مغربي .. نسيت القطاروالرفيق (أنطوان ماكارانكو) .. ولم أدركيف صرت أشقرا مثله .. أعني مثلهم .. أشقرا حد القرف .. مفرطا في البياض .. مثل بيضة مسلوقة .. وفأة شعرت بمراقب المنجم يلكزني في ظهري بعصا مطرقته كي أسرع في التنقيب بالفأس الكهربائي:
ط ..ط ..ط ..ط ..ط ..ط ..ط
وأنا كنت أرتعد .. أهتز.. أرتعد .. وكتفاي تهتزان على إيقاع (أحواش) إلى درجة إنتابتني غيبوبة . والمراقب من خلفي بشاربه الأصفرالمعقوف مثل شارب (ليشفاليزا) ولازمة أوامره الصقيعية (هيا أسرع .. أسرع .. إلحق بالجماعة )
نططت كالقرد ووقعت على قاطرة حاوية المعادن وكان صريرها الحديدي يتصادى في الكهف المنجمي أعني في كهف نفسي الجواني .. فجأة صعدت إلى صدري كحة حارة مثلما يحدث للمتقاعدين عندنا وهم يلعبون بما تبقى من عمرهم على رقعة (الضاما) وينشقون (طابا ).. وانخرطنا جميعا في سعال بروليتالي طبقي حاد ومقرف ... كان سعالنا يشبه نشيد فيلق شيوعي منهك هيجته أغبرة بارود المناجم ... وفجأة .. آه .. آه .. هذه الكلمة (فجأة) مرة أخرى تطارد قصتي مثل نكبة الحياة .. مرة أخرى (فجأة) كالقدر.. المهم قلت فجأة زعقت عجلات القطاروتهيأ لي وأنا بين الغفوة والصحوأن الحاوية توقفت .. إستفقت من سفري وإنتشلت رأسي من بين دفتي كتاب (أنطوان ماكارانكو) وكم كانت دهشتي أعظم من دهشة (فجأة) حين رأيت عبرنافذة القطارصحراء الجليد تحولت إلى جنائن نخل في مراتع وطني الجميل ترتد إلى الخلف في رقصة صحراوية فولكلورية بديعة .. حيث الشمس تتعرى مثل ملكة الجمال على شاطئ ( تاغازوت) أدركت حينها أنني كنت أغفو في مقصورة القطار وأن قطارنا كان يمضي جنوبا .. جنوبا .. جنوبا ...
ـــ تبا ل(فجأة ..!)   
abdouhakki@gmail.com

0 التعليقات: