إلى حبيبتي ناطحة السحاب
1 ـ
لكل ليلة ضرب من التواطؤ بين ضباب لندن وعالمي الجواني...ترى هل أستطيع أن أمحو خدوش صدها من جدار الذاكرة ؟
بندول الساعة الخشبية الكبيرة يتأرجح أمامي مثل ذيل عقرب تتصيد قدما بليدة مثل قدمي .. من شرفة البيت في الطابق التاسع عشر أرنو إلى السيدة المتلفعة في معطفها ( الآمبيرميابل ) الطويل .. تخرج من الصيدلية وفي جيبها كالعادة أقراص الصداع النصفي . هي لاتراني غير أنني أراها كما هي العادة .. أراها هناك في منطقة ما من مجال رؤياي..لعبة بتنا نمارسها كل مساء خميس بتوافق تلقائي .
هل كان من الضروري أن تقع عيناي عليها في “الهناك” في هذا المساء الضبابي الشتوي؟ ثم ما الذي يدفعني في مثل هذا الوقت للتفكير فيها؟ يحدث هذا دائما حين اكون على الشرفة المطلة على نهر ( التيمز) من تحتي وحديقة ( الهايدبارك ) على يميني وعمارة ( كاناري وارف ) على يساري …
حين التقيتها أول مرة ألفيتها سيدة شقراء ..صموتة أو هكذا تهيأ لي .. قاتلة بذاك الصد التاريخي والغنج السحيق لتقتحم غرفة رأسي بتظاهراتها الشقراء المشاكسة التي تنم عن تآمر دفين مع تيهها الحداثي اللندني الغامض…
كيف أعبر إلى ذاك البرزخ الرمادي السميك لأقف على أكمة الارتواء. ضباب نفاذ الى تجاويف هيكلها المرمري منذ.. منذ متى ، لاأذكر. وهي ما تزال تتحسس ذراته فوق شغاف قلبها الشفيف.
الكلل يوشك أن يبيد ما تبقي في قدماي من عطش اللقاء. لقد شمرت على مفاتنها، فهل سيقوى
إسمي العربي على اختراقها؟ هي تعي ذلك جيدا لذا فأنا ما أزال أنتظر إشارتها من على الشرفة هنا في بيتي اللندني … إنني لاأعرف اسمها ولهذا قررت أن أسميها ( ناطحة السحاب ) ويلذ لي أن أستغرق
معها في هذه المراودة دون هوادة .
2 ـ
سحابة كانت تقف كل صباح على قبعة برج ( البيج بانج ) الأصيل .. حتما كانت مقدسا لنا معا نسمو إلى مدارجها وكان الضباب الغميق هناك في السفح عاجزعن اقتراف لعبته في حديقتنا القشيبة. ما لهذاه الرابية الشرقية هناك تنكرت للبدايات الفردوسية، أتكون قد استسلمت لغوايتها الشيطانية؟
والسيدة ( ناطحة السحاب ) أمازالت تشهر أناملها الصقيلة لتخط على دفتر الضباب المزجج رسما أوليا للبشرى ، وتسائل الكائنات الغافية في مثاوي الطين عن موعد الرقصة النيسانية ؟.متأبطا موعدي الآتي في انتظار انبجاس الضباب الغميق عن وقفتها الهيفاء بين التواءات الشبابيك وطيفها المؤرق الذي صد في زحمة البرد والرياح الشتوية ما يزال يطاردني مثل ظلي.
في هذا الخواء المطلق، لا أسمع سوى رجع صداها يهدر في التخوم العميقة بين معابر النهى اليقظ والذهان اللذيذ. حيث يكون هناك للزمن حجم مهيب يتوق الى الانفلات اللامرئي.
ينتابني شعور بالفقدان، غيابها اليقيني وحضورها العنيد في غرفة الرأس يعتملان مثل النهم المستديم، لكنني أرغب فيه مثلما يرغب الطقس اللندني الآن في كلام مبلل.
فكرت أخيرا الا داعي للتفكير في ألم ذاك الصد، يكفيني فقط أن أدشن قفزة للرحيل مرة أخرى عبر النافذة فتنزلق عيناي من حديقتيهما إلى مهاوي الشارع العام.. عينان بدون جسد، أجل بدون جسد تتدحرجان على الإسفلت المبلل و تتهامسان، ربما عن رقصة مائية مع سيدتي ناطحة السحاب .
3 ـ
جئت، انشد من أوراق تيهها تراتيل المساقات، وانقش بحبر العزلة على كفها أحلامي القزحية كي أطالع على خارطة ذاتها قصة الارتواء.
أتسكع في مساقات الدوخة المسفوكة وأكلم نجمة الغربة المتمددة على شرفة الجفن..
أراود الندى.. وأحذو حذو التي حفرت على هامتي آي العشق والوجد المتسرمد، وأرنو الى نهار شؤبوبها فتجرفني مفازات الليل العاتي، تدس في ثنايا الرأس كلامها الآمر. ثم تعلق حلمي على مشجب القداسة المتوارية في طبقات الغياب، حيث سيدتي المتسربلة بلهيب الوجد وقلائد من تاريخها المسنن، تأمر فيالق الجلنار أن توقد في شوابكي المعتمة شمعداناتها الحمراء، وتخلع عنها سترة النكث.. تسرح لي ضفائرهاالشقراء.. تكحل عينيها بحبر حكاياي العربية … تمتطي هودجها الموشي بلؤلؤات عشقي الدفين.
ما أزال أترقب رقصة إيابها.. فمي يلوك عطشا عاتيا.. اصطلي نار الغربة وقد نفذ ما في زوادتي وخرمت جواربي على أرصفةالأسفار وتعرت امامي الشمس عن موعدها المنذورالخسران.
لففت جسدي في لحاف العزلة، وهتف بي هاتف أن اعرج سلالم الحلم أو اندفن في دوختك المسفوكة، فنثرت أوراقي من حولي كالهباء وألقيت بجسدي في فجاج الدفلى السحيقة… دويت عند ارتطامي بالأرض حتى تراءت لي نجوم البهاء ، أعادت لي نبض كينونتي وصرخت: هذي أشلائي ونشيد من دفق بوحي الشاجن يجري في الاوداج وذاكرتي المثخنة ما تزال تشيد من مخازنها السفلى عرسنا المصلوب بين عربدة المنفى وخضرة العتبات القصية.
أذكر في تلك الليلة الباردة كانت مساقاتي هرعية.. يلاحقها صفير من ريح الزمن المتورم. وعلى امتداد شوارع الغربة انتصبت أرواح بين ليل متغطرس وحلم يتآكل في شراييني و أرواح أخرى قفزت فجأة من أغوار الازل بأبدان غرائبية . يومها هجرت عاريا لقارة الخلق الفياض المزدان بعباد الشمس والسورنجان.. كنت اقتفي حوافر الأحصنة الجامحة، حاملا على عتاقي حزمة من أوراق المساقات ، والغلس المتغطرس يحجب عني بوابة ” حبيبتي ناطحة السحاب” التي تفضي الى سرة الدنيا ومرقاها المتدثر بالطين الارجواني والمكامن المغذقة، المثقلة بالذر الخالص والزمرد الزنجاري الذي لا تطاله رقاصات الساعات بغباوة الصدء.
كنت أمخر عباب الليل مغموسا في سكوت عاقر، اتنصت لهسيس مرعب مخفورا يختال خلف مداساتي وأمامي حشود من النيازك والشهب المنقدحة تكلؤني بومضاتها، ممتشقة سهامها البيرقية. لم يكن وقتئذ بابها نائيا عني ، كنت قاب قوسين أو أدنى منه.
حططت عند الغسق على نجد المنتهي. تلوت في السر سور الخلق، فانشرعت الدفتان السامقتان المرصعتان بحبيبات الطل.. خلعت نعلاي ودلفت في صمت المطلق، تربعت متفيئا دالية الحكمة المثقلة بفاكهة اللفظ وكانت عن يميني وعن يساري تقف الأزمنة تستوي عرباتها المطهمة لتؤوب الى مرقى هودجها العظيم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق