الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، ديسمبر 22، 2018

ماهو أدب البروفايل ؟ : ترجمة عبده حقي



ملاحظة أولى : إن تطور الويب التشاركي ، أو الويب 2.0 ، أدى في السنوات الأخيرة إلى تكاثر ما يسمى بروفايلات المستخدمين حيث تتطلب كل منصة رقمية للنشر إنشاء
بروفايل أي إنشاء "ملف تعريف شخصي للمستخدم " من الشبكات الاجتماعية إلى منصات التسوق الأونلاين إلى مواقع التعارف والألعاب الإلكترونية والمنتديات والصحف .. إلخ.
في المقابل إلى جانب الاستخدامات "العادية" للبروفايلات - التي تحترم تعليمات المنصات الرقمية - يمكننا ملاحظة عديد من الاستخدامات "غيرالنمطية " أو حتى"الاستخدامات الهدامة".
على سبيل المثال ، منصة فيسبوك الاجتماعية المعروفة على نطاق أوسع ، والتي يُلزم فيها المستخدم بتقديم نفسه لأصدقائه عن طريق نشر بياناته الشخصية مثل ( تاريخ الميلاد ، مكان الإقامة ، الهوايات ، التوظيف ، الوضع العائلي .. إلخ ).
ومن ثمة يبدو لي أنه من الضروري طرح بعض الأسئلة حول هذه الممارسات لسببين :
1. يكشف كل تغيير للبروفايل عن سر ما في عملية تحويله : فالاستخدامات الأدبية تخبرنا عن أشياء كثيرة حول البروفايلات نفسها .
2. تشهد الممارسات الأدبية لتغيير البروفيلات على تحويل معين في الأشكال الأدبية وخاصة فيما يسمى بالتخييل الذاتي "autofiction". ولكي أبدء هذا التحليل ، أود أن أتناول قضيتين :
1. ما هي وظيفة بروفايلات المستخدمين ؟
2. عماذا تكشف لنا ممارسات إنتاج البروفايلات الأدبية أو غيرها في إنتاج الهوية بشكل عام ؟
السؤال الأول يعود بنا إلى التعارض القديم لنموذجي تأويل الواقع : البراديغم التمثيلي والبراديغم الأدائي - أو إذا شئنا أن نقول العملي . ولتوضيح ذلك ببساطة : يمكننا أن نتخيل أن البروفايل هو شكل من أشكال تقديم الذات ، أي طريقة لإنشاء علاقة بين دال - البروفايل - والمدلول – وهو الشخص الذي يكون بروفايله هو البروفايل الشخصي لا غير . وبهذا المعنى يمكن أن نقول أن للبروفايل وظيفة المحاكاة (mimesis ) ويقوم بإدراجه في خط الأشكال التمثيلية مثلما تمت ممارستها وتحليلها منذ العصور القديمة .. منذ أفلاطون إلى يومنا هذا .
في هذا الإطار، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو حول المراسلة بين الدال والمدلول ، وبعبارة أخرى العلاقة بين الحقيقة والخيال : هل البروفايل تمثيل أمين للحقيقة أم أنه خيال رومانسي أم غير ذلك ؟
لكنني مقتنع بأن هذا البراديغم عفا عليه الزمن وأنه يعكس بشكل سيء للغاية واقع ممارساتنا الرقمية . البراديغم الثاني - الأكثر أهمية في رأيي - هو البراديغم الأدائي . ولن أستطرد هنا في شرح فكرة الأداء هذه ، وهي مفهوم شائع جدا في الفكر المعاصر ، منذ أوستين مرورا بالنقاش الذي دار بين سيرل ودريدا ، إلى الدراسات الخاصة بالأداء في المسرح أو في تطوير الجندر. (انظر على سبيل المثال ، جوديث بتلر) . على أي حال ، فإن الغليان الدائر حول هذا المفهوم يظهر أن هذا البراديغم يكتسب أهمية مركزية أكثر فأكثر في طريقة تفكيرنا في العالم .
باختصار أود أن أقول إنه وفقاً للبراديغم التطبيقي ، فإن البروفايل باعتباره سلسلة من ممارسات الكتابة الرقمية الأخرى يجب النظر إليه باعتباره عملاً إنتاجياً حقيقيًا . بتعبير آخر ، لا يتعلق بمسألة عرض حقيقة ما ، بل ببنائها . هذا هو السبب في أننا يمكن أن نتحدث عن الجانب العملي للبروفايل : عندما نكتب شيئًا ما على الويب - وأعني هنا بالكتابة كل شكل من أشكال إنتاج الآثار الفكرية - إننا نقوم بذلك بهدف عملي . فنحن لا نريد أن نعرض شيئًا ، بل إنجاز شيء على شبكة الإنترنت ، مثل اقتناء تذاكر الطائرة ، وإدارة الحساب المصرفي ، وشراء كتاب ، وما إلى ذلك ... حتى عندما أكتب تقريراً حول مطعم ما فأنا أفعل ذلك للقيام بشيء ما .
وبنفس الطريقة ، يبدو لي أنه عندما تنشر بروفايلك ، فإنك تنتج هوية ولا تقوم بعرضها . ولكي أكون موجودًا ، يجب أن يكون لدي بروفايل على فيسبوك أو تويتر أو على مدونة أو على موقع الجامعة التي أدرس بها . وإلا فأنا غير موجود . وإليكم مثلا هذه الطرفة : عندما كنت أعمل في إحدى المدارس في باريس ، أخبرني أحد الطلاب أنه لم يكن يعتقد أن زميله كان مهندسًا معماريًا ، بسبب أنه لم يعثر على بروفايله في محرك البحث جوجل . هذا هو السبب في أن السؤال حول حقيقة البروفايل ليس سؤالا ملائما  . فليست المسألة تتعلق فيما إذا كان البروفايل صحيحا أم لا ، لأن الحقيقة هي بالضبط ما ينتجه البروفايل : مثلا إذا كان في بروفايلي المؤسساتي أنني أهتم بالفلسفة فأنا إذن فيلسوف . في المقابل إذا كان عكس هذا فأنا لست فيلسوفا.
هذا يقودنا إلى السؤال الثاني : إذا لم يعد التعارض بين الواقع والخيال ذو أهمية بالغة ، فهناك تعارض آخر أعتقد أنه يلعب دورا أساسيا . التعارض بين الاستقلالية (autonomie) والتبعية (hétéronomie) يوجد دائماً في كيفية إنتاج الهوية - وقد تحدثت عنها في كتابي الموسوم ب (Égarements) الحب والموت والهويات الرقمية (الطبعة الكاملة للكتاب متاحة على شبكة الإنترنت). وبعبارة أخرى ، السؤال المطروح هنا هو معرفة ما إذا كنت نشيطًا وإلى أي حد في بناء هويتي . هل أنا من ينتج هويتي - بشكل مستقل - أم أن هويتي أنتجت من طرف شيء ما أو شخص آخر؟
ومن الواضح أن هذا السؤال لا يختص بالممارسات الرقمية : في الفضاء (ما قبل الرقمي)
(pré-numérique) هويتي متعالقة وتابعة - على سبيل المثال ، في وثائق هويتي ، في الإسم الشخصي الذي فرض علي ، في ما يفكر فيه الآخرون ويقولون عني - مستقل - في طريقة تقديمي لشخصيتي وارتداء ملابسي وردود أفعال سلوكي ... لكن في الفضاء الرقمي ، يتميز هذا التعارض بطريقة خاصة . إنها عملية تحرير رقمي (éditorialisation) . ويمكن تعريف التحرير الرقمي في كونه مجموعة من الممارسات المشتركة تكون غايتها إنتاج محتوى في الفضاء الرقمي . هذه الممارسات تسمح لنا بمعالجة الواقع وبناءه أيضا . وهي تستند على لعبة بين التدقيق – غير المستقل - للمنصات والخوارزميات وسلوكات الآخرين والحرية - الاستقلالية - في أفعالنا الخاصة .
بشكل ملموس عندما أنتج بروفايلا ، فأنا حر جزئيًا في تقديم هويتي كما أريد : أختار صورة ، وأقدم نفسي للعموم على منصة رقمية ما وأحاول إظهار ما يبدو لي أكثر ملاءمة مع شخصيتي - وهذا ما أعرفه بأنه "الهوية الافتراضية" في الأعمال السابقة (هنا على سبيل المثال) . ولكن في الوقت نفسه ، يتم تحديد هذه الهوية من خلال المنصة التي تفرض علي معاييرها ومن خلال تعليقات الآخرين والتفاعل معها ، و أيضا من خلال المعطيات التي تم تجميعها حول شخصيتي من قبل محركات البحث .. إلخ . هذا ما يمكن أن أسميه ب"الهوية الرقمية". وبهذا المعنى ، فإن إنتاج بروفايل يعني "كتابة الذات" s’éditorialiser : أن نعالج ماهيتنا عبر سلسلة من الأجهزة التقنية والثقافية والممارسات المشتركة التي تحدّ من حريتنا و تؤطرها.
إن الممارسات الأدبية تساعدنا على فهم هذا التوازن المعقد . تعمل مختلف أشكال التحول على إجبار المنصة على القيام بما ليس من المفترض القيام به : حيث يتم تحويل التبعية إلى الاستقلالية . وبهذه الطريقة ، يتم الكشف عن الأجهزة التقنية وفي نفس الوقت تكييفها وملاءمتها.
يصبح الأدب ممارسة للتحرير الرقمي (éditorialisation) الذي يحاول معالجة الواقعي من خلال استعادة أكبر قدر من الحرية و الاستقلالية . أو إن الإنتاج الأدبي كذلك هو شكل لإنتاج معياري للواقع . والسؤال المطروح هو ليس ما إذا كانت هذه الممارسات صحيحة أم و همية ، بل ما هو معناها السياسي : ما هو الواقع الذي تنتجه ؟ ما هو موقعها الذي تحتله في مجموع ديناميات التحرير الرقمي للواقع ؟

0 التعليقات: