الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، يوليو 27، 2021

ملف حول (الكتابة وسؤال التفرغ) اليوم مع الشاعر علال الحجام أعد الملف عبده حقي


99 % من الكتاب العرب لا تتعيش على حساب مداخيل جهد الكتابة

(1)

لغويا يتحدد التفرغ في الثقافة الغربية بكونه السنة السابعة التي يتمتع بها الباحث بعد ست سنوات من العمل لإكمال أبحاثه أو إطلاق بحوث جديدة تحتاج إلى تأمل وتركيز (قاموس ميريام ويبسترز على سبيل المثال)، كما أن البعض يجذّر الفكرة في العهد القديم حيث

يستمتع الفلاح الدؤوب بالاستراحة من فلاحة الأرض وزراعتها خلال سنة كاملة بعد كل ست سنوات من العمل، ويترك خلالها الأرض نفسها تستمتع براحتهاهي أيضاً كي تستعيد خصوبتها.

على مستوى النوايا، ما أكثر المشاريع التي تتراكم في المخيلة، ويحتاج كل منها إلى وقت معين لإنجازه (س x ز)، لكن الوقت محدود والعمر قصير، مما يجعل الكاتب الذي يجمع بين الكتابة والوظيفة المتعيّش عليها لا يحقّق منها إلا القليل القليل، بخلاف الكاتب المتفرغ الذي يستطيع أن يحقق أعلى نسبة ممكنة من مشاريعه في اعتقادي.

هذا بالنسبة للكاتب الفرد فقط، أما إذا وسعنا الدائرة فإنه ليتضح لنا بجلاء أن الكاتب العربي عامة ليس كاتبا محترفا، بمعنى أن نسبة تفوق 99 % من الكتاب العرب لا تتعيش على حساب مداخيل جهد الكتابة، وأن قلة قليلة منهم هي التي تستطيع ذلك، مما ينتج عنه هذا الخيار الاضطراري الذي نعيشه جميعا، ألا وهو الجمع بين الكتابة والوظيفة.

من المؤكد أنّ من الصعب على المرء الموازنة بين مقتضيات الدنيوي القاهر بكل نثريته، والروحاني الإبداعي الحار بكل انفعالاته الباذخة غير المألوفة، لذلك كان التفرغ للإبداع الفني أو الفكري أمرا إيجابياً جدّاً ومرغوباً فيه وخاصة في بعض المراحل، لذلك ظلّتقليدا دأبت مؤسسات كثيرةٌفي أوروبا وأمريكا الشمالية على تكريسه تكريسا لثقافة الاعتراف بالطاقات البشرية الاستثنائية من جهة، وتكريسا من جهة ثانية لتقديرها للرأسمال الرمزي الذي يراكمه الموظف المبدع أديبا كان أو مفكرا أو فنانا أو باحثاً.وأنا أظن أن أغلب الأسماء المشعة في الثقافة العالمية،بل وفي الثقافة العربية أيضاً،ما كانت تحقق الكثير مما تحقّق لها لولا تفرغها النسبي أو الكلي للإبداع والبحث والكتابة. علماً بأن المتفرّغ الجادّ يستطيع تحقيق ما لا يستطيع عادة تحقيقه في زحمة اليومي وانشغالاته، وتبديد الوقت الثمين بين التنقل وأعصاب حركة السير، والانتظار والاجتماعات ومتطلبات البيت، مما لا يتبقى منه عادة إلا ساعات معدودات لا تتجاوز أربع ساعات يوميا، بينما يستطيع خلال التفرغ الكامل مضاعفة هذا الإيقاع ثلاث مرات على النحو التالي:

 

يوميا

أسبوعيا

شهريا

سنويا

الجمع بين العمل والإبداع

4 س

28 س

120 س

1440 س

التفرغ للإبداع

12 س

84 س

360 س

4320 س

وهو ما يؤكّد مدى أهمية التفرّغ إذا ما أخذ بمأخذ الجدّ، ووُظِّفَ توظيفاً سليما.

ومن المعلوم أن الثقافة العربية الإسلامية لم تخلُ من مثل هذه التقاليد، حيث نجد كثيرا من الحكام والولاة الذين احتفوا بالعلم والبحث والإبداعومتّعوا بعض الكتاب والمصنفين والخطاطين والباحثين بالتفرغ الكامل لإنجاز أعمال مدهشة قدّروا أهميتها وما قد تعود به من فوائد على المجتمع عامة والحياة العلمية أو الفنية خاصة، ويكفينا في هذا الباب أن نذكر الخليفة المامون الذي فرّغ بعض العلماء للقيام ببحوثم وتطوير ما توصلوا إليه مثل الكندي والخوارزمي وغيرهما.

(2)

وحسب أحد مرشدي التفرغ، وبصرف النظر عن نوعية التفرّغ والمجال الذي يشتغل عليه المتفرّغُ (وظيفة، إبداع، بحث...إلخ) فإن نوايا التفرّغ عموماً يمكن أن تحقّق أحد الأهداف الأربعة التالية:

أولها سلبيّ محضٌبالنسبة لمن يريد التفرغ للكتابة، وذلك عندما تقوده رغبةُ خفيةٌ في التحرر من أعباء العمل وإكراهاته، ومن يتغيا هذه الغاية فإنما يرغب في الخروج من سجن اضطراري لا طاقة له به بحثا عن حرية وهمية توجد خارج نطاق العمل، لذلك يكون أكبر الخاسرين في عملية التفرغ لأنه في نهاية المطاف سوف يعود إلى موقعه خاوي الوفاض.

والثاني قد يكون فقط فرصة لتأمل ما تحقق والتخطيط للمستقبل على ضوئه، قصد استكمال بنائه، وتطوير مشاريع أخرى تكمّله، إنه بتعبير آخر وقفة للمراجعة وإعادة النظر في ما سلف من أجل ضمان الاستمرار،

والثالث هو الرغبة في اكتشاف الذات وكل ما يمكنه إعطاء معنى للحياة، وهو ما لا تتيحه ظروف العمل أحيانا، أو أنها تتيحه بمقدار خلال فترة معينة لكنها لا تفتأ تستنفذه فيتآكل تدريجيا مع توالي السنوات حيث يتحول العمل الممتع إلى روتين قاتل،

والرابع والأخير وهو الأهم، هو الرغبة في تغيير المضمار جملة وتفصيلاً، بعد التأكد من استنفاذ المسار الأول إمكاناته، مما يفتح آفاقا جديدة للنجاح في الوظيفة أو البحث أو الإبداع، وهذا التفرغ إن هو إلا استجابة لنداء طاقات داخلية متفجرة تدعو المعني بالأمر بوضوح إلى القيام بعمل انقلابي شامل.

هكذا يمكن التفرغ أن يكون وسيلة لتفعيل نشاط المتفرغ وتجديد تصوراته وأساليبه ورؤيته للعالم، كما رأينا على وجه الخصوص في النوعين الثالث والرابع، مثلما يمكنه أيضا أن يكون مضيعة للوقت والجهد وهدرا للمال الذي موّله، وظلما للزملاء الذي تحملوا أعباء العمل في غياب زميلهم كما رأينا في النوع الأول. وبعيداً عن كل تأويل أخلاقي، علينا أن نعترف بأنّ التفرغ قد يكون عالة على بعض المبدعين، ويصبح محفزا إضافيا على إطلاق العنان للتحليق فوق الهاوية أبعد من فضاء الإبداع، لذلك أظنّ أن المبدعين الذين لا يستطيعون إدارة تفرغهم وتدبير وقتهم جيدا، أو لا يمتلكون القدرة على التحكم في متعهم المشروعة على أي حال، فإن نتائج تفرغهم قد تصبح عكسية إذ توسّع مجال الراحة والمتعة على حساب العمل والكتابة معاً، عوض أن توسّع مجال الكتابة على حساب العمل.

(3)

غير أنه في ظل غياب المعايير وتمرير التفرغ تحت الطاولة (حسي مسي) كما يحدث عندنا ولا داعي لذكرالمؤسساتوالحالات والأسماء التي تحضرني، لا يسعني إلا أن أعترض على تفرغ يتم لإرضاء الأهل والأصداقاء حينا، وتلافي الإحراجات حينا،أوالتخلص من موظف مشاغب لا يبدع إلا صداع الرأس، أوإبعاده ولو لفترة معينة حينا آخر، والحال أن الموظف الذي يتفرغ من أجل تحقيق مشروع علمي أو إبداعي لا يتفرغ إلا للبحث عن الآجر والإسمنت، أو تدبير مشروع آخر بعيد كل البعد عن الإبداع الرمزي، أو ممارسة حرفة أخرى خارج المؤسسة الأصلية، أو اقتناص عطلة طويلة غير مستحقة مؤدى عنها.

ومع ذلك كله، فمن اللازم ألا نرى الجانب المظلم وحده من صورة التفرغ، لدرجة ننسى معها الجوانب المضيئة الأخرى التي تحتم فقط البحث عن المعايير والإجراءات الدقيقة التي تضع التفرغ على سكته السليمة لتكريس قيم مشعة تحقيقا لما يتعذر على المبدع توفيره خلال المزاوجة بين الإبداع والكدح اليومي مثل:

ـ ضمان عدم انقطاع حبل التفكير والتركيز على العمل الإبداعي الذي يشتغل عليه الكاتب،

ـ التخلص من حالة الفصام غير المعلنة التي يعيشها الكاتب غير المتفرغ، لأنه يعيش ليلا مع شخصياته وصوره واستيهاماته وعوالمه المتخيلة، وينتقل نهارا إلى عوالمه الواقعية المحبطة مصطدما بالوظيفة والملفات والصادرات والواردات والطلاب والإدارة، كابحا جماح خيال متوثب يجبره على إخلاء المكان للجهد الآخر الذي يعيش عليه،

ـ جعل التفرغ فرصة مواتية لإكمال المشاريع الجنينية واضحة المعالم، أو المشاريع التي بدأها أصحابها لكنها لم تكتمل لأنها تحتاج إلى وقت أو إمكانات مالية أو مجهودات إضافية،

ـ جعل التفرغ فرصة مواتية لتجديد المعرفة بمجال التخصص، والمجالات المتفاعلة معه، أو إعادة التكوين، ويبدو الأمر ملحا أكثر في العقود الأربعة الأخيرة حيث أصبحت المعرفة تتطور بشكل يصعب على أي كان مواكبة تياراتها القوية المتسارعة.

(4)

القضية إذن قضية إشكالية وخاصة عندما يتعلق الأمر بالإبداع الفني، لذلك من الصعب أن نجيب عن سؤال التفرّغ ببساطة بنعم أو لا، لأنه غاية نبيلة تستدعي توفير الشروط القمينة بنجاحها، وهي شروط يتداخل فيها الماديّ والموضوعي والذاتيوالبشري والجمالي والفكري، ومن المطلوب تحديدها بدقة وتوصيفها بهدوء ووضوح حتى تصبح معيارا وقانونا ملزمين للجميع.وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نحدد هذه المعايير إذن؟

أظن أن النماذج المثلى يمكن البحث عنها في الدول التي تحتفي حقا بالثقافة والإبداع الفني والعلمي، إذ تتولى هذا الأمر فيها مؤسسات خاصة تبحث عن تمويلها من الدولة ومن القطاع العام، والأثرياء، وعموما يمكنا الحديث عن أربع صيغ للتفرّغ:

أولاها غالباً ما تقتضي من طالب التفرغ لمدة محددة تقديم مشروع للمؤسسة المشغلة يقوم بتوصيف العمل الذي يريد إنجازه، وتحديد المدة التي يتطلبها، وهي تتراوح ما بين ستة أشهر وسنتين، وبعد دراسة الملف من طرف المؤسسة المشغلة والمؤسسة المانحة والداعمة، يتم تمويل المشروع جزئيا أو كليا،

وتستند الثانيةأولا وقبل كل شيء على قيام المبدع أو الباحث بالبحث شخصيا عن المؤسسة التي تموّل تفرغه، وتعوض للمؤسسة المشغلة ما يتقاضاه المتفرغ خلال مدة تفرغه التي تتراوح ما بين ستة أشهر وسنتين، وهذا يعني أن المبدع الذي يتقاضىمن مشغله مثلا2500 دولار شهريا، يتفرغ لمدة محددة على أن يحافظعلى راتبه كاملا بفضل دعم المؤسسة الداعمة،

وتخصّ الصيغة الثالثة الكتاب،ويمكن دور النشر، لو كانت المقروئية معافاة، أن تقوم بنفس الدور الذي تقوم به المؤسسات الداعمة، فهي تتعاقد مع الكاتب على إنجاز عمل أو أكثر خلال مدة محددة، على أن تصرف لهمبلغا ماليا إجماليا يساوي ما قد يكسبه خلال السنة الأولى من توزيع طبعة الكتاب الأولى، علما بأن ما يوزع خلال السنة الأولى في كثير من البلاد الغربية ليس 500 نسخة أو 1000 بل ما لا يقل عن مليون نسخة،

أما الصيغة الرابعة والأخيرة فتهم الفنون التشكيلية بما فيها من لوحات زيتية ومنحوتات ومجسمات وفوتوغرافيا، وهي شبيهة بالصيغة الثالثة، ويمكن أن تنخرط المؤسسات المصرفية في هذا المشروع، حيث تتعاقد مع الفنان على تمويل تفرغه المريح خلال فترة محددة من أجل إبداع أعمال موصوفة بدقة وفقا لملف واضح المعالم، على أن توضع هذه الأعمال أو جزء منها تحت تصرف المؤسسة المانحة، أو رواق أو متحف، أو تكون نواة مشروع جنيني لإطلاق متحف وطني أو محلّي للفنون الحديثة على سبيل المثال.

وفي جميع الحالات والصيغ يتطلب الأمر التزاما مزدوجا: التزام الجهة الداعمة والمؤسسة المشغلة بالوفاء بالتزاماتهما تجاه المبدع المتفرّغ، مثلما يتطلب التزام المتفرّغ بالتعاقد القائم مع المؤسسة المشغلة والمؤسسة المانحة، التزاما قانونيا وأخلاقيا بحيث يتضمن بنذا واضحا يلزمهفي حال الإخلال به،لا من حيث الآجال المحددة ولا من حيث الجودة المطلوبة، بأداء ما تقاضاه طوالتفرغه كاملا خلال السنة الموالية، هذا علماً بأن المبدع الحقيقي يربأ بنفسه أن يقع في مثل هذا الشرك الذي قد يعصف بصورته وسمعته ورمزيته بهذه السهولة.

(5)

وأنا أعتقد أن كلّ هذه الأحلام تقتضي أولا وقبل كل شيء أن يهتم مجتمعنا بتحقيق ما يلي:

أ ـ تغيير رؤيته القاصرة والمحدودة لدور الثقافة والإيمان بمدى قدرتها على الرقي به،

ب ـ الاهتمام بالإبداع على اختلاف أشكاله وألوانه، والاعتراف به قيمة أساسية في كل تنمية بشرية، لا تقلّ أهميتها عن القيم المادية الأخرى،

ج ـ الإيمان بكون ما ينفق على الإبداع الثقافي نوعاً من الاستثمار الذي يجني المجتمع فوائده مضاعفة بما يستنبته من قيم جمالية وفكرية،

د ـ اضطلاع القطاع الخاص بالدور المنوط به في هذا الباب (كوكاكولا، مايكروسوفت...)، وتشجيع المقاولات المواطنة على القيام بذلك على غرار ما تقوم به مثيلات لها في الغرب (أيديناور، فولبرايت، إيمز، غوغن هايم، تام ستتيوت ...)

هـ ـ تحمل المؤسسات العمومية مسؤوليتها للقيام بدورها في تنمية الثقافة لا أستثثني في ذلك أية جهة وخاصة وزارة الشؤون الثقافية، والجماعات المحلية، والمصارف، والشركات، والأثرياء (وودروف، بيل غيتس ...)

وخلاصة القول: ما أحوجنا لمثل هذه التقاليد، لأنها لو كرّست بشكل سليم وفقا لما أشرتُ إلى بعضه أعلاه، لتحقّقت مشاريعُ إبداعية باهرة في شتى المجالات تحتاج فقط إلى اعتراف وتقدير مثلما تحتاح إلى أناة للتأمل...

 

(*) شاعر مغربي يعمل أستاذاً بجامعة إيموري بأتلانتا في الولايات المتحدة الأمريكية

 

0 التعليقات: