لم يعد خاف على المهنيين والمتخصصين في المجال الإعلامي بمختلف أسانيده هذا الواقع الحرج والمقلق، الذي باتت تعيشه بمرارة الوسائط الصحافية التقليدية مثل الراديو والتلفزيون والسينما والصحافة الورقية، خاصة منذ عشر سنوات على الأقل، بعد ما سمي بالربيع العربي ثم مؤخرا بعد اندلاع جائحة كورونا، الشيء الذي كشف إلى حد ما على هشاشة وتراجع هذه الوسائل الإعلامية التقليدية في مواكبة الأحداث السياسية والاجتماعية المتلاحقة لحظة بلحظة، وأولا بأول، مقارنة مع القدرة الهائلة والفورية التي تتمتع بها منصات التواصل الرقمية وإمكانيتها الناجعة في توثيق تلك الأحداث بالكلمة والصوت والصورة والفيديو، ونشرها في حينها على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا فيسبوك ويوتيوب، ما أفرز ظواهر إعلامية جديدة، لعل أهمها ما سمي بـ»الصحافة المواطنة» التي اعتبرها الصحافيون المهنيون كائنات دخيلة متطفلة على مهنة تعتبر «سلطة رابعة» لها حرمتها، ويحددها القانون، وتنتظم ضمن مؤسسات اقتصادية قائمة بذاتها وذات دينامية قوية في حركية المجتمع المدني.
إذن لم تعد اليوم ممارسة النشر بمختلف تجلياته الصحافية والأدبية والفكرية، حكرا على المؤسسات الإعلامية المهنية السيارة، أو دور النشر الوازنة، بل أصبح باستطاعة كل فرد أن يستثمر منصات التواصل الاجتماعي مثل، تويتر ولينك دين وفيسبوك لنشر آرائه، ومواقفه وإبداعاته الأدبية بكل حرية وفورية، متحللا من قلق الرقابة القبلية والبعدية وسطوة الحسابات الأيديولوجية الضيقة، أو مزاجية هيئة التحرير في مختلف الملاحق والصفحات الثقافية الورقية. فقد جعل الإنترنت من كل مواطن تضطرم في جوانيته جذوة الإبداع الأدبي، أن يصبح في الوقت نفسه، كاتبا ومصححا وناشرا وموزعا لأعماله، عبر العديد من جسور الاتصال مثل البريد الإلكتروني ورسائل الميسنجر والصفحات الإلكترونية محققا بذلك دهشة التواصل الجميلة مع القراء، ومستمتعا بلذة ونشوة الكتابة بعد معاناته في الماضي من قساوة السد الرقابي، الذي كانت تفرضه الصحافة الورقية منذ عقود خلت إلى حدود مطلع القرن الواحد والعشرين.
الإنتاج الأدبي
هذه الظاهرة الرقمية أفرزت أجيالا من الكتاب الشباب الرقميين المغمورين، الذين أبان كثير منهم عن نضج تجربته الأدبية، خصوصا في الشعر والقصة القصيرة جدا والومضة، كما أفرزت هذه الظاهرة من جانب آخر أجناسا أدبية رقمية حديثة، كأدب فيسبوك وقصص تويتر والرواية التشاركية والنص التشعبي المفتوح على احتمالات قرائية في جميع اتجاهات المتن، تمنح المتلقي سلطة تفكيك بنية النص وإعادة تركيبه الافتراضي، انطلاقا من حرية التنقل التي تمنحها له عقد الروابط التشعبية، سواء كانت كلمات أم رموزا رقمية أو غيرها.
وفي رحى طاحونة النشر الرقمية هذه، والحرية اللامحدودة التي تتيحها لمختلف الفئات الاجتماعية غالبا ما يطرح سؤال «القيمة الأدبية والجمالية والفكرية» لهذا التسونامي من الإنتاج الأدبي الرقمي، الذي ما تزال تنظر إليه الصحافة الورقية بكل عتادها وطواقمها وتاريخها الطويل والمجيد، بنوع من الاستصغار، بل النقد اللاذع، على اعتبار أن رشد وبلاغة كل نص أدبي لا يستكمل إنضاجه إلا عبر فرن هيئة التحرير الصارمة، التي ترى أنها هي المجهر الأجدر بالتأشير إلى جواز كل كتابة كيفما كان شكلها ومضمونها، للخروج للعلن ولجمهور المتلقين، وتحقيق متعة القراءة في عالم اليوم المصطخب بملايين الأصوات العربية، في غمار عالم الرقمية التي اخترعت أساسا في المنطلق والنهاية لدعم قيم حرية الابتكار والتعبير بكل أشكاله الأدبية والفنية.
لقد خلق هذا الزخم الهائل من الإنتاج الأدبي الممهور بحرية النشر الإلكتروني معايير جمالية جديدة لمقاربة النص الأدبي الرقمي. فحتى الأمس القريب قبل ظهور الويب كانت الملاحق الثقافية الورقية هي التي تسهم في «صناعة» الشعراء والقصاصين والنقاد، وكانت حظوظ النشر على صفحات الجرائد السياسية العتيدة، تحيي أو تميت الكاتب، وهي في الختام من تزكيه بقدر كبير بالعضوية في اتحاد كتاب المغرب، بل ربما شغل منصبا في فروعه الإقليمية. أما اليوم مع انتشار الويب، فقد توارت هذه المعايير، وانهارت أسوارها السامقة فاتحة ساحة النشر الفيحاء لكل إنسان يلمس في ملكته القدرة على التعبير الأدبي، وإيصال صوته إلى مجتمعه من القراء المفترضين. وبالتالي فقد بات من الصعب نحت اسم متفرد للكاتب في فضاء رقمي، أصبح الكل فيه كاتبا مفترضا ليس في حاجة إلى اعتراف مؤسساتي أو عضوية اتحاد الكتاب، عدا عن ارتفاع منسوب الإعجابات التي يجنيها في مجموعته الأدبية فيسبوكية.
النشر الالكتروني
جل الكتاب والأدباء والمفكرين في المغرب اليوم، وبعد سنين طويلة من التردد والتوجس من ولوج هذا الفضاء الافتراضي الملتبس والغامض، قد انخرطوا عن قناعة راسخة في هذه المنصات الرقمية، وأنشأوا صفحاتهم فيسبوكية وقنواتهم اليوتوبية، وحساباتهم الواتسابية مقتنعين في النهاية ألا بد مما ليس منه بد، وألا مفر من الإقرار بضرورة استثمار هذه الوسائط الرقمية، ما جعل جسور التواصل بينهم وبين قرائهم أيسر وأفيد مما كانت عليه في علاقاتهم التقليدية وقبل انتشار وسائط التواصل الاجتماعي. وهكذا أصبحنا نلاحظ أجيالا من الكتاب والأدباء يلتئمون في صفحة فيسبوك موضوعاتية واحدة، جنبا إلى جنب مع كبيرهم وصغيرهم، لا فرق في ذلك بين كاتب رائد يتربع على أريكة إبداعية مسنة ووازنة، وشاب جامعي تفتقت موهبته الأدبية في ورشات منصات التواصل الاجتماعي بين تعليق نقدي بناء، وتنويه جميل وإعجاب محفز.. كما أصبح اليوم عديد من الكتاب في المغرب والعالم العربي ينشرون نصوصهم الأدبية الجديدة، أو تغطيات لأنشطتهم الثقافية، أو يعلنون عن جديد إصدارتهم في صفحاتهم فيسبوكية الخاصة، قبل نشرها في الملاحق الثقافية الورقية، ما أسهم كثيرا في سحب بساط السبق الصحافي الثقافي من الوسائط التقليدية، بل أكثر من ذلك أن عديدا من الصحافيين في مختلف وسائل الميديا الورقية والسمعية البصرية أصبحوا يقتبسون الأخبار الثقافية والفنية من قنوات يوتيوب وصفحات فيسبوك وبرقيات تويتر، إلخ.
يقينا أننا نعيش ثورة تكنولوجية ورقمية أحدثت انقلابا في موازين التواصل والنشر التقليدية، باعتبارها مجالا حصريا يستلزم اعتمادات مالية هائلة ودعامات لوجيستيكية مادية ضخمة، وأطقما احترافية وأدوارا فعالة في منظومة التشغيل والحركية الاقتصادية.. والسؤال المطروح اليوم بإلحاح هو: ما هو السبيل لخلق نموذج اقتصادي للنشر يحافظ على مكتسبات الوسائط التقليدية التاريخية، وتوافقات إن لم نقل مصالحة مستدامة بين الوسائط التقليدية والرقمية الحديثة، بما يخدم التقدم الاجتماعي والحداثة الثقافية والفكرية والإعلامية.
كاتب ومترجم مغربي
0 التعليقات:
إرسال تعليق