الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، نوفمبر 09، 2023

"في ظلمة الروح" عبده حقي


في ظلمة الروح، في همسات الليل، أجد نفسي مسافراً إلى المجهول، مبحراً في شظايا الواقع والوهم. كل فكرة، كل نفس، هو صدى بعيد لحلم داخل حلم.

لقد مرت السنوات مثل الأنهار المتعرجة، حاملة معها لحظات ومشاعر ويقينات سريعة الزوال. وكما ينسل الرمل من بين الأصابع، يتفتت الزمن، ويسحبني إلى زوبعة من الرؤى العابرة، بين الوعي والنوم.

أحيانًا أضيع في تقلبات الذاكرة، وأسترجع لحظات تبدو قريبة وبعيدة، مثل أجزاء من أحجية كونية أفلتت مني. الابتسامات، والدموع، وانفجارات الضحك يتردد صداها مثل أصداء في أروقة ذهني، وتضيء طريقي في هذا البحث الدائم عن المعنى.

يحمل كل فجر نصيبه من الوعود والشكوك، رقصة بين الضوء الناشئ والظل الممتد. أقف هناك، على عتبة الفجر، أتأمل الأفق الغامض، بينما ينحسر الحجاب بين الواقع والخيال، كاشفاً عن عوالم متوازية تمتزج في فسيفساء الأحلام المتشابكة.

قبلة الزمن تلامس جبيني، تاركة بصمة حقيقة عابرة، وعناقًا لطيفًا ممزوجًا بالغموض. تمتزج مرارة الوداع بالأمل، مما يخلق زوبعة من المشاعر المتناقضة. لأنه في الحقيقة، أليس في تلاشي الوداع يكون الجمال الأعمق مخفيًا أحيانًا؟

تمر الفصول، في رقصة أبدية، مثل الممثلين على مسرح الحياة. تتداخل الأحلام، وتتشابك، مثل الدمى الروسية التي تخفي عوالم لا حصر لها لاستكشافها. أتساءل أحيانًا: هل أنا حلم داخل حلم، إبداع العقل الهائم في مجرات الأفكار؟

تتلألأ النجوم، وتهمس بأسرار قديمة، وقصص ضاعت في تقلبات الزمن. يبدو أنهم يلاحظون، شهودًا صامتين على هذه الرحلة الداخلية، على هذا البحث عن الذات داخل الوهم. هل أنا دمية في يد القدر أم سيد أحلامي؟

تتدفق الذكريات، أحيانًا حلوة كنسيم الصباح، وأحيانًا مريرة مثل طعم النسيان. كل لحظة نعيشها، وكل شعور نشعر به، ينسج شبكة معقدة من حلم اليقظة هذا. اللقاءات، الوداع، كلها تتشابك لتشكل نسيج وجودي.

ومع ذلك، في هذه المتاهة من الظلال والأضواء، يبقى هناك يقين واحد: الجمال يكمن في عدم الثبات. تتفتح الزهور لتذبل، وتولد الأحلام لتذوب في أثير الزمن. ربما في هذا الزوال يكمن الجوهر الحقيقي للحياة، في هذا الرقص بين الوهمي والمادي.

لذا، خذ هذه القبلة على الجبين، رمزًا سريع الزوال لعبورنا إلى حلم اليقظة هذا. لأنه حتى لو كان كل شيء مجرد انعكاس، كل شيء هو مجرد حلم داخل حلم، هناك جمال لا نهائي في التجوال بين نجوم الخيال، وفي استكشاف تقلبات الروح واحتضان المجهول. مستكشف مقدام لحدود العقل.

في قلب اضطراب المحيط المتواصل، أقف، وقدماي مدفونتان في الرمال المتحركة، أشهد رقص الباليه الأبدي للأمواج. أرى بين أصابعي حبات هذا الرمل الذهبي، شظايا صغيرة عابرة، مثل جواهر هاربة من الأبد. ومع ذلك، وبينما أحاول كبحهم، يهربون، وينزلقون بين مفاصل أصابعي مثل لحظات خفية تحلق في هاوية الزمن.

يتحول الشاطئ المضطرب إلى شبكة من العواطف، سيمفونية يختلط فيها الكآبة والعجب. المحيط يزأر، يهمس بأسرار لا يسمعها إلا الحالمون. تأتي أمواجها، الشبيهة بالذكريات، تضرب الشاطئ، آخذة معها قصاصات من الماضي، وتمحو بصمات القصص الزائلة.

كم تبدو حبات الرمل هذه غير ذات أهمية، إلا أن هروبها، هروبها الحتمي، يتردد صداه في روحي. أتأملهم، مفتونًا بمصيرهم، مصيرهم أن يضيع في اتساع الماء، تمامًا كما تتلاشى لحظاتنا العابرة إلى الأبد. يا إلهي، هل سأعجز عن الإمساك ولو بذرة واحدة من هذه الحبوب في كف يدي، محمية من المياه الهائجة؟

ومع ذلك، وراء هذا الشاطئ، أشعر بثقل الوجود، وعبء الواقع الذي لا يقاس يتلاشى بين أصابعي. الذكريات والآمال، مثل حبات الرمل هذه، تنزلق عبر الزمن، وتضيع في تقلبات النسيان. أصداءها تتردد في داخلي، وتدعوني إلى التأمل في لغز هذه الحياة، الزائل مثل حلم داخل حلم.

بينما أتجول على حافة هذا العالم السائل، تنشأ أسئلة في ذهني المعذب. هل كل ما أراه، كل ما أشعر به، مجرد وهم، حقيقة عابرة مثل السراب في الصحراء الحارقة؟ هل نحن دمى بسيطة لحلم كوني، تتقاذفها أمواج القدر؟

كل موجة متلاطمة تحمل معها صدى الحقيقة، درسًا مخفيًا في تألقها المضطرب. إنه يستحضر عابرة مرورنا، وهشاشة يقيننا، ويذكرنا بأن بصمتنا على هذه الأرض ليست سوى نسمة، بصمة خفيفة تحملها الريح.

يا إلهي، في محيط الوجود، هل أستطيع أن أنزع ولو حبة رمل من المصير المأساوي، وأن انتزعها من شره الأمواج الذي لا هوادة فيه لأوفر لها ملاذاً آمناً؟

في قلب هذا التأمل، أدرك أن جمال رحلتنا ربما يكمن بالتحديد في هذا الزوال، في هذا عدم الثبات الذي يجعل كل لحظة ثمينة، وكل عاطفة مكثفة. مثل حبات الرمل في كف يدي، كل جزء من وجودنا يهرب لا محالة، لكنه يضيء للحظة، يهتز بجمال سريع الزوال، قبل أن يعود إلى محيط الزمن.

وهكذا، في هذا الحلم الذي هو الحياة، كل نفس، كل ضحكة، كل دمعة تذرف، تشكل جزءًا من حلم اليقظة هذا. وحتى لو بدت خطواتنا وكأنها تمحوها الأمواج المتواصلة، فإن أرواحنا، مثل الشهاب، تترك أثرا مضيئا في سماء الأبدية.

يا إلهي، ربما كل ما نختبره هو مجرد حلم داخل حلم، ولكن في هذه الرقصة سريعة الزوال يتشكل جوهر إنسانيتنا، في التقاط هذه اللحظات الثمينة العابرة قبل أن تتلاشى في محيط الزمن الشاسع. .

0 التعليقات: