الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، نوفمبر 09، 2023

نص سردي "يا مسافر وحدك" عبده حقي


أنا السائر في دروب غير مستكشفة، رحالة الروح، الباحث عن الكنوز في تلافيف الأرض. كل خطوة هي مغامرة، كل نفس، قصة. أعود من آفاق بعيدة، من محيطات ذات أمواج لا متناهية، حيث يضيع الزمن في لحن الريح.

داعبت عيناي الفجر المشرق فوق الجبال، وأحسست بحرارة الصحاري المشتعلة على بشرتي، وتذوقت عذوبة نسيم البحر المتراقص مع الأمواج. لقد تركت الأراضي الغريبة بصماتها على جسدي، وزرعت بذور الحكمة، ودروسًا لا يفهمها إلا المسافر الحقيقي.

لقد كان كل محيط تم عبوره بمثابة خيط منسوج في سجادة حياتي الكبيرة. اللقاءات العابرة، والأحضان الدافئة، والوداع المفجع - كل هذا أصبح يشكل نسيج وجودي. مثل المزارع في حقله، زرعت الصداقات، وحصدت الخبرات، تاركًا ورائي القليل من كياني في كل محطة.

ومع ذلك، بينما كنت أقطع الكوكب، كان صديقي الراسخ في موطنه ينتظر بصبر أن تتبع الفصول مسارها المعتاد. مثل شجرة، نما في هدوء بيته، وتجذر في لحظات بسيطة، ووجد الحكمة في الثبات، والغنى في الألفة.

ربما أتقدم في السن بشكل أسرع، وأحمل ثقل المغامرات والاكتشافات مثل العبء. لكنه، يا صديقي، وجد الثروة في الاستقرار، والفرح في الروتين المحبوب.

أنا الرحالة العائد، الراوي للقصص من أركان العالم الأربعة. كل تجعيدة هي ذكرى، وكل خطوة هي صفحة طويت. صديقي هو المراقب الهادئ للأيام التي تمضي، ينسج وجوده عبر الفصول المألوفة.

نحن وجهان لعملة واحدة، طريقان متعرجان في الخريطة الإنسانية العظيمة. هو، المرساة، أنا، الرحلة. كلاهما متكاملان، نجد ثراء الحياة في مساراتنا الخاصة، ورحلاتنا الخاصة.

أنا منهك، متعب من كثرة الوجوه التي التقيت بها. وأخيراً عدت طالباً الراحة في الآفاق الإلهية، حيث يتجاوز الإنسان ذواته. أخبرك عن سعيي، التجوال العقيم، حيث وطأت خطواتي غبار العوالم الثلاثة الممزوج برماد ناري الداخلية.

الآن، قلبي ينبض بمشاعر عميقة، ويداي تمسكان بشعر الأطفال الأشقر. وها أنا أقف أمامكم معبراً عن مرارة قلقة، متسائلاً عمن يسافرون في مسارات بعيدة.

إن الطرق التي سافرتها، والتي شهدت حياة متشابكة، قادتني إلى هذه الحكمة: نحن جميعًا مسافرون، نسعى للعثور على مكاننا في هذا العالم الواسع. ولا يكمن المسعى في اكتشاف الأراضي البعيدة فحسب، بل في البحث عن الروابط التي توحدنا أيضًا.

إن قصص رحلاتي ليست سوى انعكاسات لوجود سريع الزوال، وأجزاء من القصص المتشابكة مع وجودك. كل لقاء، كل وداع، ينسج شبكة معقدة من المصائر. إن الإنسانية نسيج تتقاطع فيه خيوط الجميع، وتمتد إلى ما وراء الحدود والآفاق.

أتوقف متأملًا، وأواجه هذه الصورة المتحركة، وأشاركك هذه اللحظات، وأبحث عن إجابات في هذه الرحلات حيث تختلط الأقدار. تبقى الأسئلة، لكن البحث عن المعنى مستمر، حيث تتقاطع مساراتنا وتنفصل.

أستحضر، في تقلبات الذكريات، هذه الدروب التي سلكتها النفوس الهائمة، هذه الدروب التي تقود إلى ما هو أبعد من الآفاق الملموسة. الرحلة التي بدأتها مع أرواح أخرى متشوقة للاكتشاف، لم تعرف تألق الشمس، ولا وهج القمر الناعم. هذه المسارات، التي لا يمكن لأي ثروة بشرية الوصول إليها، تنتمي إلى سيد غيور، حارس شرس للأسرار التي لا يمكن فهمها.

لقد انطلقنا في هذه الرحلة اللامحدودة، حيث تسعى الوتيرة جاهدة إلى أن تظل بطيئة، بين وجوه متجمدة في واقع كئيب وغريب. رحلة نعتنقها جميعًا، بغض النظر عن إرادتنا، لأنه حتماً سيتعين على الجميع المرور عبر هذه الأبواب غير المرئية.

أجد نفسي، عند رحيلهم كما عند رحيلك، أفكر في هروب هذه الوجوه. ومع مرور الفصول، انطلق كل واحد تلو الآخر نحو أراضٍ مجهولة. للأسف، في هذه اللحظة الكبرى، كان علي أن أدفن هذه الرؤوس المحبوبة في الأرض. مثل البخيل، ختمت كنزي الخاص في أعماق الأرض المظلمة.

لقد كانت اللقاءات على طول هذا الطريق بمثابة خصلات في الظلام، ومنارات عابرة تضيء المسار الغامض. والأرواح المتقاطعة بدورها نقشت بصمتها على رق ذاكرتي. لقد نسجت قصصهم وأحلامهم وصمتهم شبكة معقدة، ولوحة جدارية متحركة، لن أتمكن من انتزاع نفسي منها.

كانت هناك أوقات كان فيها عبء المجهول يثقلني، وكان عدم اليقين يلف قلبي بضباب جليدي. لكن في لحظات الارتباك هذه، همست لي النجوم غير المرئية بكلمات عزاء، وأخبرتني أن هذا الطريق، رغم أنه متعرج، هو الوحيد الذي يؤدي إلى وجهة لا مفر منها.

التضاريس التي عبرتها هي لوحات حية، ولوحات قماشية تم إحياءها بواسطة فرشاة الزمن والعناصر. كل وادي، كل جبل، كل نهر يهمس بقصة قديمة، حكاية لا يسمعها إلا المسافرون اليقظون.

ومع ذلك، ورغم كنوز هذه الأراضي غير المستكشفة، يظل قلبي مرتبطًا بهذه الوجوه المختفية، بهؤلاء الأحبة الذين أفتقد وجودهم. إن ثقل الغياب، مثل العبء الذي يجره المرء بلا كلل.

وهكذا تستمر الرحلة، لتشكل أرواحنا، وتواجهنا مع الزائل والثابت، بالجمال والخراب. نحن جميعًا مسافرون على هذه الأرض، ونسلك طرقًا مختلفة نحو نفس المصير. يتردد صدى خطواتنا في صدى الزمن الأبدي، وتنسجم صورنا الظلالية مع ضخامة العالم.

يبقى حارس أسرار الرحلة، جامدًا. فهو يلاحظ تقدمنا، وترددنا، وعجبنا، وآلامنا. لكنه في صمته يعلم حكمة القبول والصبر والامتنان لكل لحظة يعيشها.

لذلك أواصل تجوالي، باحثًا في كل منعطف في الطريق عن أجوبة لأسئلة مراوغة، مدركًا أن الكنز الحقيقي هو الرحلة نفسها، بمنعطفاتها ولقاءاتها وتجاربها. وأنا أستعد، في كل خطوة، للاحتفال بالجمال بعيد المنال لهذه الرحلة الزائلة، مسترشدًا بذكريات الوجوه المحبوبة، التي تحتفظ في قلبي بنور حضورهم الماضي.

لقد شهدت رحيلهم. ضعيفًا، مليئًا بالكرب المراوغ، رأيت ثلاث مرات كفنًا داكنًا منثورًا باللؤلؤ الأبيض يمتد حجابه في هذا الممر. تدفقت دموعي، الهشة والمملوءة بالضيق اللامتناهي، على أيديهم الباردة، مثل يدي امرأة حزينة. لكن عندما أغلق التابوت، شاهدت روحي أرواحهم وهي تهرب، وتفتح جناحين ذهبيين نحو وجهة صوفية.

هل رأيتهم يغادرون، مثل ثلاث طيور سنونو تحلق نحو ربيع أكثر ثباتًا وصيف أكثر اعتدالًا؟ أمي، رائدة هذه الرحلة، نظرت إلى السماء وبدأت الرحلة في المقام الأول. في لحظاتها الأخيرة، أضاءت نظرتها، المشبعة بنور لا يوصف، الفضاء بتوهج فريد، وهج لم يسبق له مثيل في أي مكان آخر.

لقد ترك رحيلهم أصداء لا حصر لها في كياني، وأصداء من المشاعر الخام، نحتت أخاديد غير مرئية في داخلي. لقد علمني ألم الفراق، وقطع الروابط الأرضية، هشاشة الحياة، والجمال الزائل لكل لحظة مشتركة. غيابهم، مثل لحن متقطع، يتردد في داخلي، ويذكر بلا كلل الحضور العزيز الذي تبخر الآن.

هذه الأجنحة الذهبية التي أزهرت خلف حجاب الموت أيقظت في داخلي الفضول والعطش لفهم أسرار هذه الرحلة الحتمية. أية أرض سماوية، وأي آفاق جديدة اكتشفوها خارج هذا العالم المعروف؟ تظل هذه الأسئلة دون إجابة، مدفونة في أعماق عقلي المعذب.

في ظلمة الضياع، تفحصت النجوم، باحثاً في تألقها عن بصيص أمل، ووعد بلقاء الشمل في مكان بعيد المنال. لقد أصبحت الليالي مسرحًا لأعمق أحلامي، لتلك الأحلام حيث يبدو أن الأحباء يتجسدون لمشاركة ذرة من الحكمة أو مداعبة عابرة.

الفراغ الذي تركه رحيلهم هو ظل، رغم وجوده، يعلمني أن أعتز أكثر بنور كل لحظة. تصبح الذكريات جواهر، ولآلئ ثمينة أحتفظ بها في قلبي، تضيء الأيام المظلمة بتألقها الأبدي. ويبقى جوهرها حيا في كل نبضة من قلبي، في كل نفس يحيي أيامي.

ومع ذلك، على الرغم من الألم، يغمرني الامتنان المشوب بسلام لا يمكن تفسيره. كان رحيلهم بمثابة أصداء الحرية، وأغاني الهروب نحو آفاق غير مستكشفة، تذكرني بجمال الوجود الزائل، وضرورة تجاوز الحدود الأرضية لإلقاء نظرة على اللامتناهي.

وهكذا أواصل رحلتي، مدركًا أن صدى خطواتي يتردد في الدروب التي مهّدوها من سبقوني. اخترت أن أسير بالكرامة والحكمة الموروثة من هذه النفوس الحبيبة، وأن أكرم ذكراهم بكل لفتة، وكل ابتسامة، وكل فعل حب مزروع على طول طريقي.

إلى هؤلاء المسافرين الشجعان، الذين كسروا قيود الأرض ليطيروا إلى سماء مجهولة، أهدي خطواتي وأحلامي ولحظاتي الثمينة. ستظل محفورا في أعماق كياني، في شظايا النور التي تركتها خلفك. وفي هذا التجوال الأرضي، أحتفل بجمال رحلتك، بحثًا عن نفس الأفق الذهبي الذي حلقتَ نحوه.

كان ابني البكر أول من سلك هذا الطريق، وتبعه والدي، المخضرم الشجاع، فخورًا بعمر من النضال، مزينًا بالأوسمة والمجد. والآن يرقد الثلاثة هناك، مغمورين في ظلام النوم الأبدي، بينما تبدأ أرواحهم في رحلة غامضة إلى الأراضي التي سنذهب إليها جميعًا يومًا ما.

إذا كنت ترغب في ذلك، في الوقت الذي يبدأ فيه القمر في الانخفاض، يمكننا أن نتسلق التل معًا خلال هذه الليلة الصامتة، حيث يستريح أسلافنا. سأريكم، بمشاركة نظراتكم الطيبة، مدينة الموتى بجوار المدينة النائمة. لذا، سوف نسأل أنفسنا هذا السؤال: أيهما ينام بشكل أفضل؟

إن ذكريات هذه النفوس الراحلة، المشبعة بالشجاعة والحصافة وبصمة الزمن، لا تزال تتردد في داخلي. لقد نسجت قصصهم نفسها في نسيج وجودي، تاركة بصمة لا تمحى، وصدى لا نهاية له.

على مر السنين، لاحظت الحياة كزوبعة لا مفر منها، رقصة بين النور والظلام، بين الولادة والنهاية. لقد شهدت رقصة الأجيال، وتناقل المعرفة والأساطير، والوداع المفجع الذي يشير إلى مرور الزمن الحتمي.

 

صمت المقابر يثير الراحة الأبدية والحكمة الغامضة، ودعوة للتأمل في زوال الوجود. يحكي كل شاهد قبر قصة، وكل اسم محفور يستحضر حياة ومصيرًا ومسارًا فريدًا داخل الإنسانية الهائلة.

وتكشف مدينة الموتى، الموازية لمدينة الأحياء، عن تناقض صارخ. إنه مكان يتأمل فيه الأحياء، حيث يواجهون واقع الموت الحتمي. إنه مكان للتأمل والتذكر والتفكير، ويدعونا إلى احتضان الحياة بالكامل وتكريم ذكرى المتوفى.

هناك جمال غريب في هذه الازدواجية بين المدينة النائمة والمدينة الميتة. يغرق أحدهما في نوم هادئ، بينما يظل الآخر مستيقظًا بالذاكرة والذكرى. تدعونا هذه المقارنة إلى التساؤل عن المعنى الحقيقي للراحة والطمأنينة والسلام.

ومع ذلك، وعلى الرغم من الانفصال بين هذين العالمين، إلا أنني أشعر بوجود استمرارية معينة، صلة لا تتزعزع بين أولئك الذين سافروا في هذه الرحلة الغامضة وأولئك الذين ما زالوا يسيرون على هذه الأرض. إنه تذكير مؤثر بعدم ثبات الحياة، ودعوة لاحتضان كل لحظة، وكل عاطفة، وكل علاقة بوعي حاد بزوالها

الرحلة المظلمة إلى المجهول مصير مشترك. نحن جميعا مسافرون على هذه الأرض، نسير في مسارات مختلفة نحو نفس الأفق بعيد المنال. وفي هذه العالمية للرحلة يظهر جمال التجربة الإنسانية.

لذا، إذا كنت ترغب في ذلك، فسوف نتسلق هذا التل معًا في ضوء القمر المتلاشي، ونتأمل في ثنائية هذين العالمين المتجاورين. سوف نسأل أنفسنا السؤال، بالنظر إلى هذه المدن النائمة والميتة: أيها ينام أكثر؟ لكن في العمق، ربما يكمن الجواب في التأمل نفسه، في هذا التفكير في الحياة والموت والجمال الذي ينبثق من انسجامهما المتناقض.

تعالوا لنرافق هذا الصمت، مستلقيين جنبًا إلى جنب على اليابسة. فلنستمع، بينما تهدئ باريس زوبعة متواصلة، إلى هذه الملايين من الأرواح المنطفئة، تحصد الأبناء ، الخارجين في حيرة من قبورهم، كالبذور التي تنبت في ثلم الزمن.

كم من الأحياء، الذين قُدِّر لهم ذات يوم أن يكونوا إخوة أو أخوات، يتجولون بفرح في حين ينبغي لهم أن يكونوا الحراس الأبديين لبعض الظلال العزيزة! السنوات، المنتصرون المستبدون، يمارسون قوتهم بلا كلل.

تبدو حياة المتوفى عابرة جدًا. دعهم يستريحون تحت ثقل الحجر! للأسف، في القبور، ينهارون إلى غبار، ولكن بسرعة أقل مما هي عليه في قلوبنا.

نحن كائنات محصورة في الزمن، أسرى الفصول العابرة، تجرفنا رقصة التغيير الأبدية. تضج شوارع باريس بحركات متواصلة، ويواصل الأحياء مساراتهم، غافلين عن حياتهم السابقة، وذكرياتهم متجمدة تحت وطأة الزمن.

لكن من خلال الاستلقاء على الأرض، والاستماع إلى نفخة النفوس المختفية، يتردد صدى وجودها في كياننا. يبدو أن قصصهم وأفراحهم وأحزانهم تتشابك في باليه أثيري، مما يثير تأملات عميقة حول الطبيعة العابرة لوجودنا.

تظل ذكريات المتوفى شظايا من الحقيقة، وقطعًا من الحكمة محفورة في شقوق حياتنا. هذه النفوس، على الرغم من غيابها، تستمر في ممارسة تأثير خفي، وهو تذكير بهشاشة وجمال كل لحظة تعيشها.

الموت، هذا الرفيق الحتمي للأحياء، يعلمنا التواضع والامتنان لكل نبضة قلب، ولكل نفس ينعش أيامنا. إنه يذكرنا بثمن كل لحظة والحاجة إلى الاعتزاز بالروابط التي تنسج نسيج وجودنا.

من المزعج أن نرى انقضاء العمر، أن نرى مدى سرعة تآكل الزمن لبصمات من كانوا أعزاء علينا. تحتوي المقابر على قصص منسية، وأسماء منقوشة مثل المرثيات، تثير التفكير في معنى مرورنا على هذه الأرض.

في هذا التأمل الصامت أشعر بنوع من التصالح مع الوجود والموت. الغبار الذي يغطي الجثث غير الحية يثير نوعًا من السلام، والاندماج مع الطبيعة، والانتقال الحتمي للوجود نحو شيء لا يمكن تحديده.

في هذه العلاقة الحميمة مع الأرض ندرك أن الموتى لا يموتون تمامًا. تظل ذكرياتهم باقية كأصداء الزمن، همسات حقائق قديمة، بقايا عاطفية لا يزال يتردد صداها في حياتنا.

عندما نترك مراكش مع ضجيجها خلفنا، يلفها هذا الصمت الكاشف، فإننا ندرك الوجود الشامل لما وراء العالم، عالم موازٍ تسكنه الذكريات والأحلام والآمال، عالم يلتقي فيه الأحياء والأموات في عناق خالد.

وهكذا، في هذا الهجر المتواضع الذي يواجه الأرض، في هذا الاستماع إلى همسات الحيوات الماضية، أشعر بصدى النفوس المختفية، وحضورها الذي لا يوصف في نسيج الوجود. وفي لحظة الشركة هذه، أرى الأبدية الزائلة التي تربطنا جميعًا، أحياء وأموات، في عناق متناغم وغامض.

مسافر يا مسافر وحدك ما هذا الجنون الغريب عندنا! كم عدد الوفيات التي تُنسى مع كل دقات الساعة؟ من أعز النفوس، من أجمل الوجوه؟ من يستطيع حقًا قياس مدى هذه القدرة على النسيان، وإحالة الكثير من المصائر المتلاشية إلى العدم؟

يبدو أن الألم، هذا الرفيق الحتمي للوجود الإنساني، يتلاشى مع مرور الوقت. إنه يندمج في نسيج حياتنا، ويتلاشى شيئًا فشيئًا مع استمرار الطبيعة في دورتها، حيث تمحو كل ورقة عشب تنمو على الأرض القبور والنصب التذكارية تدريجيًا.

كم من ذكرى تتلاشى مع مرور الأيام، مع كل نبضة من نبضات القلب؟ كم من الأرواح والوجوه والضحكات والدموع تختفي في غياهب النسيان الجماعي، ويمحوها التدفق المستمر لمرور الزمن؟

تتغير حياتنا باستمرار، مما يؤدي إلى تآكل ملامح ذكريات الماضي، وتحويل العواطف، وتلميع حواف الألم. ننسى، بدافع الضرورة أو بدافع غريزة البقاء، أن نمضي قدمًا، وأن نستمر في التنفس رغم أعباء الماضي.

ومع ذلك، هناك عمق مفجع لهذه القدرة على النسيان. إن أعز الكائنات بيننا، وأثمن الكائنات، تصبح مع مرور الوقت شظايا غير واضحة من الذاكرة، تذوب في محيط التجارب الجديدة، وتبتلعها أمواج الحياة المتعاقبة.

كل يوم يبزغ يمحو ندبات الماضي أكثر قليلاً، ويحول الألم إلى بصمات بسيطة عابرة. المقابر مغطاة بالطحالب، والأسماء المنقوشة تتلاشى، تاركة آثارًا غامضة في التاريخ، آثار تتلاشى ببطء.

إن مفارقة الوجود الإنساني تكمن في هذا الميل إلى النسيان. إنها آلية للبقاء، ولكنها أيضًا خيانة لأغلى ذكرياتنا. عواطفنا، أحزاننا، ضحكاتنا، أحزاننا، كل شيء يذوب في دوامة الزمن العظيمة، ويصبح شظايا عائمة في محيط الوجود المتعدد.

ومع ذلك، على الرغم من فقدان الذاكرة الجماعي هذا، هناك جمال معين في التجديد الدائم للحياة. بذور النسيان تفسح المجال لبراعم جديدة، لقصص جديدة، لوجوه جديدة تأتي لتملأ أفق وجودنا.

من المؤلم والمحرر أن نلاحظ زوال الذاكرة البشرية. تتلاشى الذكريات، ولكن في هذه الضبابية يبقى هناك بصيص من الأمل، ودعوة لاحتضان كل لحظة، وكل لقاء، وكل عاطفة، مع وعي حاد بزوالها.

تذكرنا هذه الرحلة إلى النسيان بالحاجة إلى العيش بشكل كامل، والحب دون قيود، وخلق ذكريات حقيقية والاعتزاز بكل لحظة. لأنه، مثل الشهاب في السماء، كل لحظة ثمينة، وكل ابتسامة عابرة، وكل دمعة فريدة من نوعها.

لذا، أيها المسافر، يا مسافر وحدك ربما يكون من حماقتنا أن نعيش، أن نحب، أن نشعر، ونعلم جيدًا أن كل شعور، كل ذكرى، يمكن أن تختفي يومًا ما في محيط الزمن. لكن في هذا الزوال يكمن جمال وكثافة الوجود الإنساني، في القدرة على الاستمتاع الكامل بكل ثانية، بكل عاطفة، على الرغم من مصيرها أن تتلاشى ببطء في طي النسيان.

0 التعليقات: