الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، نوفمبر 09، 2023

"أوقات عارية" عبده حقي


تائها في تقلبات الزمن، حيث تمتد الساعات بلذة لا متناهية، على حافة العصور العارية. بدا أن هذه الأزمنة البعيدة، المغمورة بنور فويبوس، تجمد الجمال في الحجر، وتذهّب التماثيل وتزيد من نقاء الأشكال.

رقص الإنسان بنعمة لا متناهية، متحررًا من القيود، مستمتعًا بالحياة دون ستار الخداع أو ظل القلق. السماء، تلك العاشقة العظيمة، داعبت عمودهم الفقري، وكأنها تمجد صحة هذه الآلات البشرية الرائعة.

قدمت سيبيل، هذه الإلهة الخصبة، كنوزها السخية دون أن تشعر أبدًا بعبء أطفالها. لقد قدمت نفسها كذئب ذو قلب رقيق، تسقي الكون بحلماتها البنية، المليئة بالحب الأمومي اللامتناهي.

لقد كان الإنسان في ذلك الوقت أنيقًا وقويًا في آن واحد، ويطالب بحقه في أن يكون سيد الجمال النقي، الذي لم يمسسه أي تغيير، وله بشرة ناعمة تتعطش المداعبات والقبلات.

تركت نفسي تنجرف بهذه الذاكرة البعيدة، إلى هذا العصر الذهبي عندما كانت المروج تمتد على مدى البصر، مثل اللوحات الفاتنة. وساد الانسجام، وكانت البراءة هي الأسمى، وبدا أن كل عنصر من عناصر الطبيعة يبتهج في سيمفونية مثالية.

الأنهار تغنت بلحن رقيق وهادئ، بينما قدمت الأشجار ظلها الواقي للأرواح الهائمة. لقد تعايشت الحيوانات في تكافل تام، في توازن محفوظ، دون تهديد الإنسان الذي يحوم فوق وجودها.

في ذلك الماضي البعيد، رقصت الفصول في وئام تام. كشف الربيع عن شبابه ونضارته، وألبسنا الصيف الدفء، ورسم الخريف الطبيعة بألوان ملغزة، والشتاء كان ينوم الأرض بلطف.

كانت الحياة قصيدة، نثراً لا مثيل له. كل شروق شمس كان معجزة، وكل غسق لوحة فنية متحركة. بينما كان القمر يراقب أحلام الكائنات النائمة.

للأسف، العصور العارية هي مثل شظايا حلم، زائل ، هاربة من قبضتي. لقد تطور العالم، وترك الإنسان بصمته التي لا تمحى، والمدمرة في بعض الأحيان، على هذه الأرض.

اليوم، أنظر إلى الوراء بحنين، مشتاقًا لاستعادة البراءة والانسجام المفقود. لقد تطورنا، ولكن بأي ثمن؟ لقد ترك السباق المحموم نحو التقدم ندوبًا على كوكبنا، وعلى أرواحنا.

ومع ذلك يبقى هناك أمل، بصيص أمل في الظلام. يمكننا أن نتعلم من هذه الأوقات العارية، ونستعيد احترام الطبيعة، ونتعلم من جديد الانسجام والسلام وجمال البساطة.

ربما يمكننا يومًا ما إعادة التواصل مع هذه الحكمة المفقودة، وإعادة اكتشاف العلاقة الحميمة مع أرضنا، وتكريم الحياة بكل تنوعها، والاحتفال بالجمال في أنقى صوره. أحب ذكرى هذه الأوقات العارية، لا لكي أعيش في الماضي، بل لأستمد منها القوة لبناء مستقبل أكثر إشراقًا، مليئًا بالاحترام والحب والتفاهم.

يئن المسخ، ويشتاق إلى ثيابنا! جذوع سخيفة، تستحق الأقنعة! أجساد مسكينة ملتوية، نحيلة، ذات بطون مترهلة، التي لفها إله المنفعة، عديم الرحمة والهادئ، في قماطه الوقحة!

وأنتن أيها النساء، للأسف! شاحبات كشموع السجون، يأكلن الفجور ويتغذى عليكن، مثلك أيتها العذارى، تحملين إرث الرذيلة الأمومية وكل قبح الخصوبة!

في هذه التأملات المظلمة، أشعر بالانتقال إلى أزمنة بعيدة، حيث كان النقاء يحظى بالتبجيل، وحيث كانت الطبيعة في قمة الجمال. الأوقات التي كشف فيها الرجال والنساء عن أنفسهم دون خداع، حيث كان عريهم بمثابة احتفال بالأصالة.

أتذكر تلك العصور القديمة، حيث ذاب الحياء في نعومة منحنيات الإنسان، حيث كان الجمال يكمن في البساطة، بعيدًا عن القيود التي يفرضها المجتمع الحديث. كان الرجل والمرأة لوحة حية، أعمالاً فنية مثالية، دون الحاجة إلى أقنعة أو زينة لتمويه جوهرهما.

لم يكن عريهما عارًا ولا مصدرًا للفساد، بل كان تأكيدًا على طبيعة الإنسانية ذاتها، على نقائها الأصلي. كل منحنى، كل سمة، كل عيب كان سيمفونية طبيعية، إعلانًا عن الانسجام مع الكون.

لقد كان وقتًا تم فيه تكريم الجسد واحترامه، حيث تنعكس صحة الروح وحيويتها في النعمة الجسدية. كان الفجور مفاهيم غريبة، في حين سادت النقاء والبراءة.

وللأسف تغيرت الصورة. واليوم، تجذر الانحطاط، مما أدى إلى حجب رؤية الجمال الحقيقي. الأجساد ليست أكثر من أصداف فارغة، تفسدها التجاوزات والتشوهات والحيل.

لقد وضع المجتمع الحديث معايير مستحيلة للكمال، ففرض رؤية للجمال تشكلت بمعايير مصطنعة. يتم الآن الحكم على الأجساد وتقييمها وتعديلها لتتوافق مع المثل العليا التي لا يمكن تحقيقها، وبالتالي إبعاد الرجال والنساء عن جوهرهم الأساسي.

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الظلام الذي يبدو أنه يحجب الحاضر، فإنني أحتفظ في نفسي بالأمل في رؤية هذه الأوقات العارية مرة أخرى بطريقة أخرى. ربما في يوم من الأيام سنكون قادرين على إعادة اكتشاف البساطة والأصالة، وإعادة تعلم كيفية الاحتفاء بالجمال بجميع أشكاله، دون حيل الحداثة.

إن حب الحقيقة المجردة، والأصالة الخام، يظل متجذرًا في داخلي. أحب ذكرى هذه العصور العارية ليس للهروب من الحاضر، ولكن لأستمد منها القوة لإعادة اكتشاف جوهر الجمال، بعيدًا عن الخداع والأعراف الاجتماعية، للعثور على النعمة في البساطة ونقاء الأشكال البشرية.

صحيح أن مجتمعاتنا، في حداثتها، ولدت أمما فاسدة، تزينت بجمال لم تعرفه الشعوب القديمة. وجوه تحمل وجع القلب، وتظهر شكلاً من أشكال الجمال الضعيف. ومع ذلك، فإن إبداعات ملهماتنا الراحلات لن تتمكن أبدًا من التغلب على الأجيال المريضة في تكريمها للشباب.

شاب مقدس، هواء بسيط، وجبهة لطيفة، عيون صافية كالمياه الجارية، ينشر بكل اهتمام عطوره وأغانيه ودفئه العذب، مثل سماء زرقاء ترفرف فيها الطيور والزهور.

في هذا التناقض بين القديم والحديث، أغوص في الأوقات التي كان يتم فيها الاحتفاء بالشباب دون خداع أو تشويه. زمن لم يشوب فيه الجمال تقرحات القلب، حيث سادت النضارة والبساطة.

أتذكر تلك الأوقات التي كان فيها الشباب، هذه الفترة الحلوة من الحياة، يُكرم كتقدمة من الطبيعة تفيض بالحيوية والرشاقة. لم يكن الشباب مجرد مسألة عمر، بل كان موقفا، ونقاء الروح، ونظرة صريحة للعالم، وطريقة للوجود تنشر نورها دون عناء، مثل الربيع المتدفق.

 

كان زمناً لم يذبل فيه الشباب تحت وطأة الهموم ومرارة الوجود وحيل الغرور. أشرق، شفافًا وواضحًا، مثل الماء النقي الذي يتدفق بسلام، ليضفي نضارته وحيويته على كل ما حوله.

كانت الوجوه مرايا لهذا الشباب الداخلي، دون وصمة الحزن أو الفساد. كانت النظرات شفافة، وتعكس البراءة والفضول ونقاء الروح، وتذكّر بتألق المياه الكريستالية الصافية وشفافية السماء.

العصور العارية يتردد صداها في داخلي كصدى عصر كان فيه الشباب يحظى بالتبجيل لعفويته، وبهجته، وحيويته التي لا تتغير. وبعيدًا عن الخداع وآلام القلب، حكمت كملكة، ونشرت عطورها العذبة وموسيقاها الساحرة ودفئها المريح في جميع أنحاء العالم.

ولكن للأسف، لقد أدى الزمن إلى تحولها. لقد رأت الأمم الفاسدة هذا الشاب المقدس يختفي تحت وطأة عذابات النفس، تحت وطأة الحيل والأعراف. لقد تغيرت الوجوه، وفقدت الوضوح الواضح الذي ميزتها ذات يوم.

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التطور المرير، فإنني مستمر في حب ذكرى هذه العصور العارية، لا ندمًا على الماضي، بل لأستمد من جوهرها القوة لإحياء رؤية جديدة للشباب. شباب متجدد، أعيد اكتشافه في بساطته ونضارته ونقائه، بعيدًا عن أمراض الروح وحيل المجتمع الحديث.

أريد أن أؤمن بولادة هذا الشباب الأصيل من جديد، خاليًا من أي تلوث للقلب، مفعمًا بالحيوية والعفوية، مقدمًا تألقه للعالم كتقدمة ثمينة وغير متغيرة. ليستعيد الشباب، بكل بهائه، مكانته المقدسة، ويشع كمنبع لا ينضب من الفرح والجمال والتجديد.

0 التعليقات: