الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، نوفمبر 09، 2023

"حديث الثلوج " عبده حقي


البداية، دائمًا هي نفسها، مثل حكاية تُروى من خلال العدسة الغامضة لروح متفردة، عندما يلقي القدر موته تحت حجاب ليلة مصيرية. يحدث ذلك عندما ينزل الثلج المتراكم، نقيًا وأبيضًا قدر الإمكان، محتضنًا الغابة الداكنة في حضن رقيق ولكنه تقشعر له الأبدان. أغنية يتردد صداها في الهواء، تهمس بأنها لن تعود طوال الشتاء. تصفر ندف الثلج بأسرارها على الأرض العارية ، وأكاد أتعثر، أحدق لأعلى ولأسفل، مثل شخص يتخلى عن مهمته، أخيرًا، يلحق بالركب. إنهم يسمحون لثقل الفناء بأن ينزل عليهم حيث يقفون، دون أن يرتكبوا أي خطأ، ولم يحققوا أي انتصار عظيم أكثر أهمية مما لو أن الحياة لم تبدأ من قبل.

أقف شاهدًا وحيدًا على حركات الرقصة الدوامة لعناصر الطبيعة، وأشعر بثقل الوجود يستقر على كتفي. في هذه اللحظات، سكون العالم ورقصة تساقط حبات الثلج يحدثني بلغة لا يفهمها إلا القلب. يمتزج الجمال بالكآبة ليشكلا سيمفونية من المشاعر التي تجد طريقها إلى قلبي.

عندما أشاهد الثلج يغطي الأرض، تأسرني الطبيعة العابرة للأشياء. كل رقاقة، فريدة من نوعها في تصميمها، تنضم إلى عدد لا يحصى من رقائق أخرى لتغطية الأرض. إنهم يصنعون لوحة تُحفر عليها حكايات الماضي وهمسات المستقبل بأناقة صامتة.

في سقوطه الصامت، يعلم الثلج فن التخلي، واحتضان الجمال العابر للحظات العابرة، وإيجاد العزاء في الغطاء البكر للعالم.

في هذا التفاعل الدقيق بين تساقط الثلوج الأثيري واحتضان الأرض أجد العزاء، أقرب إلى الشخص الذي اكتشف لحظة من الفهم العميق. وبينما تدور ندف الثلج وتدور في انحدارها الرشيق، أتذكر رقصة الحياة المعقدة، فكل لحظة هي خطوة دقيقة في تصميم الرقصات الكبرى للوجود.

في هذه اللحظة المتجمدة، بينما أقف ساكنًا وأدع السكون يتسرب إلى كياني، أفكر في الرحلة التي أوصلتني إلى هنا.

المنعطفات، والأفراح والأحزان، كلها تشبه المسار الفريد الذي تسلكه كل ندفة ثلج قبل أن تستقر على الأرض. أنا أيضًا جزء من هذه الرقصة الكونية، حيث تتشابك قصتي مع قصص عدد لا يحصى من البشر.

إن غطاء الثلج يخفي العيوب والكمال، تمامًا مثل الحجاب الذي نرتديه في حياتنا. إنه تذكير هادئ بأنه تحت عباءة أفعالنا وتجاربنا، هناك نقاء وبراءة، في انتظار إعادة اكتشافها، مثل الثلج البكر الذي ينتظر كشف النقاب عنه.

يثير تساقط الثلوج إحساسًا بالاختتام والبدايات الجديدة، ونهاية وبداية متزامنة. وفي انتقالها السلس من السماء إلى الأرض، تهمس حكايات التجديد والتحول. مثلما يحول الثلج العالم إلى أرض عجائب شتوية، فإننا أيضًا نمتلك القدرة على التحول وإنشاء جناتنا الخاصة وسط المناظر الطبيعية المتغيرة في حياتنا.

صمت الثلوج المتساقطة، والهبوط السلمي، كل ذلك يعكس عمق الرحلة من النشوء إلى الذروة، وكل لحظة هي نقطة انطلاق في الامتداد الأوسع للوجود. عندما يهدأ الثلج، أتذكر أن كل بداية تحمل في داخلها خيوط النهاية الحتمية. تستمر الدورة، وأجد نفسي متواضعًا أمام روعة هذه الولادة الدائمة.

في هذا الفصل الافتتاحي من رواية الشتاء، لست سوى مجرد حاشية، متفرجًا على التصميم السماوي الذي ينكشف أمامي. أقف كممثل في هذا المسرح الكوني، حيث يكتب الكون نفسه السيناريو. وبينما أستسلم لعظمة نزول الثلج، أعانق المجهول، وأجد السلام في جمال البدايات والاختتام اللطيف لما كان.

إنني أدرك أن الموت الشتوي القاسي لم يجرؤ قط على لمس الأرض، لكنه فشل في محاولته. ورغم أن الثلج قادر على التراكم في طبقات سميكة أثناء العواصف الطويلة، فإنه غير قادر على غمر الأرض دون تحويل مسارها.

كما لو تم قياسها مرة أخرى بأشجار الأرز والبلوط، أدرك أن الطبيعة لا يمكنها إسكات الهمس الفضي للمراقب. سأشاهد الحركة البطيئة للثلج وهو يتدحرج أسفل التل ليذوب في ماء جدول رفيع، مثل نهر أبريل الذي يتدفق عبر الفرامل الذابلة في العام الماضي. الحشائش الميتة، مثل الثعبان المختفي، تسمح لنفسها بالهدوء لهذا التجديد اللطيف.

في هذا المشهد الزائل، لن يبقى شيء أبيض إلى الأبد، باستثناء شجرة أرز منفردة أو هناك، مجموعة من المنازل مصحوبة بكنيسة، تقف كحراس التحول.

البداية، فصل مشحون بسيمفونية غريبة تتجلى فيها مقاومة الطبيعة في وجه الشتاء القاسي. وكأن كل عنصر من عناصر الأرض، وكل ورقة عشب، وكل أنواع الأشجار تشهد على النضال والمثابرة. إنها قصة انتصار الحياة على الموت الصامت، والتجديد على النوم الأبدي، وكأن كل ندفة ثلج هي نغمة في هذا اللحن الموسمي.

أقف هناك، في هذا المسرح الطبيعي، شاهداً مميزاً على الرقص بين الطبيعة والعناصر. الثلج، رمز النقاء، ينسج شبكة نقية فوق الأرض، ليخفي ندوب الماضي بينما يعلن عن حقبة جديدة. إنها بداية تحول، متحول حيث تسلط هزيمة الشتاء الواضحة الضوء فقط على قوة الطبيعة غير المتوقعة.

في هذه الفسيفساء من التناقضات، من اللون الأبيض النقي والظلال الخجولة للربيع القادم، اكتشفت تناغمًا غريبًا. توازن بين هدوء الشتاء وإثارة الحياة الجاهزة للظهور. وكأن رسم الطبيعة مقدمة لسيمفونية أبدية، ووعد ضمني بالتجدد والتطور المستمر.

في هذا المشهد المتغير باستمرار، أرى علامات التطور المستمر. لا شيء يبقى ثابتًا، حتى في سكون الشتاء المفترض. كل لحظة هي فصل سريع الزوال، ولكنه حاسم، في كتاب الطبيعة العظيم.

في هذه اللحظة المتجمدة، أندمج في المناظر الطبيعية، وأستوعب دروس المرونة والتطور، وأتناغم مع الطبيعة في تحول دائم. في هذه البداية أجد الوعد بالولادة المستمرة، وقسم الطبيعة على تجديد نفسها، مرارًا وتكرارًا.


0 التعليقات: