الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أبريل 24، 2024

مكاشفات : (14) عبده حقي

262

كانت لمستها مثل الفرشاة، وكنت أنا لوحتها القماشية. لقد رسمت على الندبات بضربات الحب ، وحولت العلامات المشينة إلى عمل فني جميل. كانت كل ندبة عبارة عن قصة، وكانت هي المؤلفة، التي أعادت كتابة قصة حياتي.

263

وبينما تلاشت الندوب في الذاكرة، شعرت بتغيير في داخلي. لم يعد يتم تحديدي من خلال جروحي أو ماضيي. لقد ولدت من جديد، كائنًا جديدًا، متحررًا من أغلال الألم والمعاناة. لم أشفى فقط، بل تحولت.

264

وفي النهاية، لم يبق سوى أثر خافت من الندوب، وتذكير لطيف بالرحلة، والمعارك التي خاضها وانتصر فيها. وفي مكانها، كانت هناك قصة جديدة، قصة شفاء، وتحول، وولادة جديدة.

265

بلمستها اللطيفة، لم تشفي جروحي فحسب، بل روحي أيضًا. لم تمحو الندبات فحسب، بل تمحو الألم الذي رافقها. وبذلك، علمتني الدرس الأكثر قيمة على الإطلاق - أنه حتى أعمق الجروح يمكن أن تشفى، وحتى أبشع الندبات يمكن أن تتلاشى وتتحول إلى ذكريات جميلة.

266

كان الهواء معلقًا ثقيلًا ببقايا المغادرين. برجا من الفولاذ والوداع المنسي، رددت المحطة سيمفونية طيفية للرحلات التي لم تتم. كل لوح زجاجي مكسور، بوابة محطمة إلى الوجهات التي لم يتم الوصول إليها أبدًا. خيوط العنكبوت، وهي سجادات معقدة حبكتها يد الإهمال، غطت ألواح المغادرة، وأصبحت تصريحاتها المبهمة الآن تصريحات غامضة للأشباح.

267

كانت الريح، وهي روح مضطربة مرتبطة إلى الأبد بالمحطة، تسري حفيفها عبر بقايا هيكل عظمي لجدول زمني، وتهمس صفحاته بمسارات رحلات منسية. على الأرضية الفسيفسائية المتشققة، بصمة باهتة لحقيبة وحيدة، حلم مهجور، شهادة على حياة عابرة إلى الأبد. في غرفة الانتظار الكهفية، رقصت الظلال رقصة الفالس المروعة، وأشباح المسافرين المرهقين الذين يستعدون دائمًا لقطار لن يصل أبدًا.

268

إنها باقية، أصداء الإنسانية هذه - رجل أعمال يتفقد ساعة جيبه إلى الأبد، وامرأة شابة تمسك برسالة حب ممزقة، وضحكات طفل يتردد صداها في الممرات المهجورة. إن قصصهم، المحفورة ليس بالحبر، بل على طبقة الصدأ وأنين الأخشاب المتحللة، هي سيمفونية من الشوق، وجوقة من الإمكانات غير المحققة.

269

أقف وحيدًا وسط الحشد الطيفي، متعديًا على مقبرة الأحلام هذه. الصمت، الذي لا يكسره سوى تنهيدة الريح الحزينة، يبدو مثقلًا بالقصص غير المعلنة. في قلب المحطة، ساعة وحيدة، عقاربها متجمدة في الزمن، تصبح نصبًا كئيبًا لرحلات لم تبدأ أبدًا، وتذكيرًا تقشعر له الأبدان بعدم ثبات جميع الوجهات.

270

يصبح الهواء كثيفًا برائحة الوعود المنسية، والرائحة المعدنية للطموحات التي لم تتحقق. شعاع واحد من ضوء الشمس، يخترق الكوة المغطاة بالأوساخ، يضيء ذرة غبار تدور في الهواء، وهو صدى عابر لحياة تعيش في حركة دائمة، تتوق إلى الأبد إلى الرحيل التالي، المجهول التالي.

271

في السيمفونية الليلية لليراعات المتلألئة، عثرت على عالم يتشابك فيه السحر والواقع، حيث رقصت الظلال في انسجام مع الضوء الخافت. كان كل مخلوق صغير مضيء بمثابة منارة للسحر، تضيء الظلام المخملي بتوهجه العابر.

272

بينما كنت أتجول في متاهة الليل، كان الهواء مفعمًا بالحيوية مع طنين الأجنحة الناعم والجوقة اللطيفة لزقزقة الصراصير. تسللت أشعة القمر عبر المظلة أعلاه، وألقت أنماطًا مرقطة على أرضية الغابة، حيث كانت الظلال ترقص في أحلام اليقظة الصامتة.

273

في وسط هذا الرقص الأثيري، شعرت بنفسي منجذبة نحو الوهج النابض لليراعات، وأجسادها المتقزحة التي تنسج أنماطًا معقدة في الهواء. كان الأمر كما لو كانوا يحملون أسرار الكون في ضوءهم الزائل، كل يومض وهمسًا بوعد سحري لم يتم الكشف عنه بعد.

274

وبينما كنت أتتبع أثرهم المضيء في أعماق الغابة، ضللت طريقي في مشهد من الجمال المتلألئ، حيث كان الواقع غير واضح وطار الخيال. بدا أن الوقت قد توقف، معلقًا في حضن الليل الضبابي، بينما أسلمت نفسي لسحر رقصة اليراعات.

275

مع كل خطوة أخطوها، كانت الحدود بين المرئي وغير المرئي، والمعروف والمجهول، تذوب في العدم، حتى وجدت نفسي غارقًا في عالم حيث كل شيء ممكن. لقد كان مكانًا للعجب اللامتناهي، حيث أفسح ما هو عادي المجال للمعجزة، وتحول العادي إلى غير عادي.

276

وبعد ذلك، في لحظة من السمو الخالص، أدركت أن سحر اليراعات لم يكن موجودًا في ضوءها الوامض فحسب، بل في العلاقة العميقة التي أقامتها بين عوالم الملموس وغير الملموس. لقد كانوا رسل الاحتمالات، مبشرين بواقع يتجاوز الفهم، وأرشدوني نحو فهم أعمق للأسرار المخبأة في الليل.

277

عندما بدأ ضوء الفجر الأول في الظهور في الأفق، وأغرق العالم بألوان الوردي والذهبي، أدركت أن مواجهتي مع اليراعات قد غيرتني إلى الأبد. ففي حضورهم العابر، لمحت الإمكانات اللامحدودة للكون، وتأثرت بالسحر الكامن في داخلنا جميعًا.

278

في فسحة الأثيري الشاسعة، وجدت نفسي أسير على طول شواطئ الوجود. كل خطوة خطوتها، وكل بصمة تركتها في رمال الزمن، كانت بمثابة شهادة على الرحلة التي قمت بها.

279

سارت بجانبي، تجسيد الكون. ومع كل خطوة، تركت هي أيضًا بصمتها على الرمال، مرآةً لرحلتي. لم تكن آثار أقدامها مجرد انطباعات على الرمال، بل كانت أصداء للطريق الذي سلكناه، وأصداء للتجارب التي شاركناها.

280

كانت كل بصمة بمثابة قصة، حكاية الأميال التي مشيناها، والتجارب التي واجهناها. لقد كانوا رموزًا لمثابرتنا وصمودنا وتصميمنا على مواصلة المضي قدمًا، بغض النظر عن العقبات التي تعترض طريقنا.

281

كانت آثار الأقدام عابرة، وسريعة الزوال، ومقدر لها أن تغسلها أمواج الزمن التي لا هوادة فيها. ومع ذلك، فقد كانوا أيضًا خالدين، وخُلدوا في سجلات ذاكرتنا. لقد كانت شهادة على رحلتنا، وشهادة على قوة روحنا.

تابع


0 التعليقات: