الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أبريل 20، 2024

مكاشفات : (10) عبده حقي

178

بصوتٍ أجش من الإهمال، أنطق الاسم الذي كان سجينًا على لساني. إنه معلق في الهواء، خيط هش يربطنا ببعضنا البعض. تومض ابتسامة مترددة، شبح ما كان في السابق، على الوجه أمامي. في تلك الابتسامة، عالم من الاعتذارات غير المعلنة، ووعد محفور في التجاعيد حول العيون المتعبة.

179

الجسر يحمل. نحن نقف في مركزه، روحان تترنحان على حافة المصالحة. الطريق أمامنا يكتنفه الضباب، والوجهة غير مؤكدة. ولكن للمرة الأولى، نواجه الأمر معًا، ونمد أيدينا لإصلاح الجسر المكسور، خيطًا بعد خيط، وننسج التسامح من رماد ماضينا.

180

في الحضن الأثيري لستارة الليل ، وجدت نفسي مفتونًا بالباليه الغامض الذي ينكشف أمامي. ضوء القمر، مصمم الرقصات السري، نسج خيوطه المضيئة على قماش البحر المتموج. استسلمت كل موجة، متوسلة لمعلمها السماوي، للإيقاع الرتيب للمد والجزر.

181

تحت التوهج الفضي، تحول العالم إلى مشهد من الجمال السريالي. تحولت الظلال إلى راقصين طيفيين، تدور صورهم الظلية على سطح الماء بنعمة من عالم آخر. أصبحت الحدود بين الواقع والخيال غير واضحة، كما لو أن نسيج الوجود قد انحل تحت وطأة السحر المقمر.

182

وأنا، مجرد متفرج في هذا المسرح الكوني، أحسست بأن حواسي تغمرها سيمفونية من الأحاسيس. همس النسيم المالح بأسرار عوالم منسية، بينما ترددت صرخات الطيور البحرية البعيدة كألحان حزينة من أرض بعيدة. لقد أصبح الوقت نفسه مفهومًا عابرًا، معلقًا في أحضان هذا الحلم الليلي الخالد.

183

في رقصة الضوء والظل، لمحت أجزاء من انعكاسي. مظهر عابر، مشوه بتموجات الوجود، ولكنه مشبع بإحساس عميق بالألفة. ربما، في هذه

الفسيفساء المقمرة، وجدت أصداء روحي، منجرفة وسط مساحة البحر اللامحدودة.

184

وهكذا، أسلمت نفسي لمد وجزر هذه السيمفونية السريالية، مما سمح لضوء القمر أن يرشدني عبر أعماق متاهة الخيال. لأنني في هذه الأوديسة الليلية، اكتشفت الجوهر الحقيقي للوجود - التوازن الهش بين الملموس وغير الملموس، المرئي وغير المرئي، المحدود واللانهائي.

185

عندما اخترق ضوء الفجر الأول حجاب الليل، تلاشى باليه الفضة المتلألئة تدريجيًا في عالم الذاكرة. ومع ذلك، بقي جماله الزائل في أعماق وعيي، وهو شهادة على الجاذبية الخالدة للبحر تحت ضوء القمر. وعندما وجهت نظري نحو الأفق، أدركت أنني سأظل مبتهجًا إلى الأبد بالرقصة الغامضة للضوء والظل على الأمواج.

186

تحت أغصان أزهار الكرز، تحدثنا عن عهودنا، وحبنا يتفتح مثل البتلات الرقيقة في أنفاس الربيع. كل وعد همس حمله النسيم، واختلط برائحة الأزهار الحلوة، وربطنا بنسيج من الإخلاص.

187

في أحضان جمال الطبيعة اللطيفة، تعهدنا بقلوبنا لبعضنا البعض، وكانت كلماتنا سيمفونية التزام وسط رفرفة البتلات. كانت أشجار الساكورا، بأغصانها المزينة باللونين الوردي والأبيض، تشهد على اتحادنا، وكانت أزهارها تمطر مثل البركات من الأعلى.

188

وبينما كنا نقف تحت مظلة الزهور، بدا أن الوقت يتباطأ، مما سمح لنا بتذوق كل لحظة ثمينة من اتحادنا. تلاشى العالم من حولنا في الخلفية، ولم يتبق سوى تبادل الوعود الرقيقة وحفيف البتلات الناعم المتساقط على الأرض.

189

في تلك اللحظة العابرة، محاطًا بجمال أزهار الكرز الزائل، ازدهر حبنا من جديد، وبقي عطره في الهواء مثل وعد إلى الأبد. وبينما ختمنا عهودنا بقبلة، علمنا أن حبنا سيستمر، تمامًا كما تعود أزهار الساكورا عامًا بعد عام، وهي شهادة على مرونة القلب البشري.

190

سيمفونية من العزف يتردد صداها في الغرفة الكهفية لكياني. كل نبضة، مطرقة إيقاعية تضرب سندان روحي. يتطاير الشرر، وتتوهج شظايا الشعور، ومع كل منها تولد قصيدة. إنها ليست مقاطع شعرية أنيقة للعقل البشري، ولكنها كوكبات حية، وسديم من الخبرة الدوامة المنسوجة بخيوط ضوء القمر والطاقة الخام للوجود.

191

هذه هي اللغة التي يتحدث بها قلبي، لسان بدائي يسبق الكلمات. يتحدث عن شروق الشمس الذي يصبغ السماء بدماء الخليقة، عن الأسرار الهامسة التي تتبادلها الريح، عن سيمفونية الفرح والحزن الحلوة والمرة التي هي جوهر الوجود.

192

قصيدة حياتي ليست سردا خطيا، بل هي نسيج من غبار اللحظات. ضحكة طفل، ودمعة تلتقط نيران غروب الشمس، ومشهد العواطف المذهل الذي يلون كل تفاعل - كل ذلك تم خياطته بدقة في نسيج كياني.

193

هناك مقاطع محفورة في خط الألم المسنن، أبيات مكتوبة بيد الخسارة المرتعشة. ولكن حتى في أحلك الزوايا، هناك وميض من التحدي. جمرة عنيدة ترفض الانطفاء، شهادة على الروح الدائمة التي تحترق في داخلها.

194

وهناك أبيات كتبت بمداد الحب المضيء . متعة التواصل الجامحة، سيمفونية الوجود المشترك المثيرة للروح. هذه هي الأبيات التي يتردد صداها بعمق، فهي أصداء لغة عالمية، أغنية يغنيها كل قلب ينبض في أوركسترا الحياة الكبرى.

195

القصيدة تتطور باستمرار، وهي شهادة حية على التدفق المستمر. مع كل شروق شمس، تتكشف مقطوعة موسيقية جديدة، وهي شهادة على رقصة الحياة والموت، والخلق والدمار التي لا هوادة فيها. إنها قصة محفورة ليس على الورق، بل على نسيج كياني، وهي شهادة على سر الوجود النابض بالحياة.

196

في الشفق المنسي في أروقة الذاكرة المتاهة، وقفت عربة دوارة متجمدة في الزمن، أخفت ألوانها النابضة بالحياة بمرور العصور. وشهدت كل ثورة على سيمفونية من الحكايات الهامسة، المغزولة من خيوط أحلام الطفولة والبراءة المفقودة.

197

بينما كانت التروس الصدئة تتأوه في خضوع متردد لمسيرة الزمن التي لا هوادة فيها، شرع الكاروسيل في رقصته المهيبة، رقصة الفالس الشبحية وسط أصداء الضحك والفرح المتلاشية. الخيول الملونة، التي كانت ذات يوم فخورة وشهمة، تحمل الآن ثقل السنين على أطرها المتأثرة بالعوامل الجوية، وأعينها مرايا جوفاء تعكس شبح الأيام الماضية.

تابع


0 التعليقات: