الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 04، 2024

لحظة للكتابة والارتشاف : عبده حقي

 


عندما أجلس في هذا المقهى الغريب ، أشعر بثقل القصص من حولي، مثل الأوراق النقدية الباهتة المثبتة على الحائط - نسيج من الأماكن التي قد لا أزورها أبدًا. الهواء كثيف برائحة القهوة القوية، يمتزج برائحة الخشب القديم والدفاتر الجلدية. لا يسعني إلا أن أتساءل عن الأيدي التي لمست هذه الأوراق النقدية، والحياة التي عاشتها وتركتها وراءها، والقصص المنسوجة في طياتها.

عندما أرفع الكوب الخزفي الرقيق إلى شفتي، يضيق العالم عند حافة الكوب والسائل الغني الداكن الذي يحمله. الطعم جريء ومرير قليلاً، تمامًا كما أحبه. يذكرني بالليالي المتأخرة التي قضيتها في المصارعة مع الكلمات، في محاولة لالتقاط الجمال العابر لفكرة قبل أن تهرب. أتناول رشفة ببطء، مستمتعًا بالدفء الذي ينتشر عبر جسدي، ويثبتني في هذه اللحظة.

تلقي القبعة التي أرتديها بظلالها على عيني، وتحجبني عن العالم خارج أفكاري. إنها قبعة قديمة، مهترئة ومريحة، مثل القميص الذي أرتديه ــ بسيط فضفاض مصنوع من قماش ناعم مهترئ. وكلاهما رفيقان مألوفان في رحلتي، يريحانني ببساطتهما. إنهما لا يطالبان بالاهتمام؛ بل يسمحان لي بالاختفاء في عالمي الخاص، لأصبح مجرد زائر آخر لهذا المقهى، أحتسي القهوة وأكتب.

ألتقط قلمي، وثقله مألوف ومطمئن في يدي. الصفحة الفارغة أمامي هي لوحة تنتظر أن تمتلئ بألوان أفكاري وعواطفي. يتدفق الحبر الأسود بسلاسة، ويرسم ملامح أفكاري، ويعطي شكلاً للمجرد. أكتب عن الأشياء التي ألاحظها، والأشياء التي أشعر بها، والأشياء التي أتوق إليها. تأتي الكلمات بسهولة، وهي تيار من الوعي يتدفق من قلمي إلى الورقة.

على الجانب الآخر من الطاولة، تقع نظارتي الشمسية بجانب دفتري المفتوح. إنها تذكير بالعالم المشرق في الخارج، وأشعة الشمس القاسية التي أهرب منها أحيانًا من داخل هذه الجدران الباردة المظللة. العدسات مظلمة، تكاد تكون غير قابلة للاختراق، مثل الحواجز التي نضعها أحيانًا لحماية أنفسنا من العالم. إنها تخفي عيني، وبالتالي أفكاري ومشاعري. هنا، في خصوصية دفتر ملاحظاتي، يمكنني أن أكون ضعيفًا أو حذرًا كما أختار.

المقهى هادئ، باستثناء همهمات خافتة للرواد الآخرين وضوضاء الأكواب والصحون البعيدة. إنه نوع من الهدوء السلمي، من النوع الذي يعزز التأمل والإبداع. يمكنني سماع همهمة خافتة للمحادثة، ومقاطع الكلمات والضحك، لكنها ضوضاء خلفية لأفكاري الخاصة. أتساءل عن حياة هؤلاء الغرباء من حولي، ما الذي أتى بهم إلى هنا، وما القصص التي يحملونها معهم. في هذه المساحة المشتركة، نحن جميعًا متصلون بفعل بسيط وهو التواجد في هذه اللحظة.

إن الجدار خلفى عبارة عن مجموعة من الذكريات، مجموعة من التذكارات من المسافرين الذين مروا بهذا المكان. هناك بطاقات بريدية وملصقات وحلي متنوعة - رموز الرحلات التي قمت بها، والمغامرات التي عشتها. إنه تذكير باتساع العالم، والتجارب العديدة التي تكمن وراء هذه الجدران. أشعر برغبة شديدة في التجوال، وشوق لاستكشاف، ورؤية وتجربة أشياء جديدة. ومع ذلك، أجد أيضًا الراحة في هذه الزاوية الصغيرة المألوفة من العالم، في طقوس الكتابة وعزاء العزلة.

أثناء الكتابة، أدرك مرور الوقت، والساعات التي تنزلق بعيدًا مثل حبات الرمل عبر الساعة الرملية. ومع ذلك، في هذه اللحظة، أشعر أن الوقت معلق. لا يوجد سوى إيقاع ثابت لقلمي يتحرك عبر الصفحة، والتوقف العرضي بينما أحتسي قهوتي، وطنين العالم اللطيف من حولي. إنها لحظة من الهدوء والوضوح، حيث تتلاشى فوضى الحياة، وكل ما يبقى هو بساطة الوجود.

أكتب عن الأشياء التي تهمني، الأشياء التي تحرك روحي. أكتب عن الحب والخسارة، عن الأحلام والمخاوف، عن جمال الوجود وألمه. تتدفق الكلمات مني، تنفيسًا عن نفسي، وتحررًا. هناك شعور بالحرية في هذا الفعل الإبداعي، في وضع أفكاري في كلمات وتحريرها. إنه فعل ضعف، وكشف عن عالمي الداخلي، ولكنه أيضًا فعل تمكين، والمطالبة بصوتي وحقيقتي.

مع استقرار آخر قطرات القهوة في فنجاني، أغلق دفتر ملاحظاتي، راضيًا عن الكلمات التي التقطتها. أتنفس بعمق، وأشعر بدفء القهوة المتبقي والرضا الهادئ عن الكتابة. ألقي نظرة حول المقهى، متأملًا الوجوه المألوفة والمحيط المريح. إنه مكان ملجأ، مكان يمكنني فيه أن أفقد نفسي في أفكاري وأن أخرج بإحساس أكثر وضوحًا بالذات.

أقف، وأعيد قبعتي إلى رأسي وأرتدي نظارتي الشمسية. عندما أخرج من المقهى، أترك ورائي جزءًا من نفسي في الكلمات التي كتبتها، وفي القصص التي شاركتها. لكنني أحمل معي أيضًا جزءًا من هذا المكان، ذكرى هذه الظهيرة الهادئة التي قضيتها في التأمل والإبداع. العالم الخارجي مشرق وصاخب، لكنني أشعر بالسلام والرضا. أنا مستعد لمواجهة أي شيء يأتي بعد ذلك، وأعلم أنني أستطيع دائمًا العودة إلى هذه الزاوية الصغيرة من العالم، إلى هذا المقهى، حيث يمكنني أن أجد العزاء والإلهام في الفعل البسيط المتمثل في الكتابة.


0 التعليقات: