في عصرنا الرقمي الراهن، تنتقل المعلومات بسرعة مهولة وغير مسبوقة، فتتجاوز الحدود وتصل إلى ملايين المتلقين في غضون ثوانٍ. ورغم أن هذا الانتشار السريع قد عزز الاتصالات على المستوى العالمي، فإنه قد أدى أيضًا إلى ظهور تحدٍيات كبيرة ومنها انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة. وتشكل هذه الظاهرة تهديدًا خطيرًا لمصداقية وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية، مما يهز أساس المصداقية التي تقوم عليها الصحافة.
إن الأخبار
الكاذبة ليست مفهومًا جديدًا في جوهره. فقد استُخدمت المعلومات المضللة على مر
التاريخ كأداة للتلاعب بالرأي العام، وخصوصا التأثير على الانتخابات، وإثارة
الصراعات. ومع ذلك، اكتسب مصطلح "الأخبار الكاذبة" شهرة كبيرة خلال
الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، عندما انتشرت كالنار في الهشيم عبر
منصات التواصل الاجتماعي، مما أثر على الإدراك العام على نطاق واسع. وغالبًا ما
تحاكي هذه الأخبار الملفقة مصادر الأخبار المشروعة، مما يجعل من الصعب على القراء
التمييز بين الحقيقة والخيال.
لقد أدى ظهور
الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي إلى تفاقم هذه المعضلة. فعلى النقيض من وسائل
الإعلام التقليدية، حيث يتم عادةً اختيار المحتوى والتحقق منه من قبل المحررين،
تسمح المنصات الإلكترونية لأي شخص بنشر المعلومات ومشاركتها من دون حد أدنى من
الرقابة. إن ديمقراطية إنشاء المحتوى لها فوائدها ولكنها تفتح الباب أيضًا لأولئك
الذين ينشرون الأكاذيب عمدًا لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية أو مالية.
لقد أثر انتشار
الأخبار الكاذبة بشدة على مصداقية وسائل الإعلام. فقد تراجعت الثقة والمصداقية في
الصحافة المطبوعة والإلكترونية على حد سواء مع تزايد تشكك جمهور القراء في
المعلومات التي يستهلكونها. ووفقًا لمؤشر إيدلمان للثقة لعام 2021، كانت الثقة في
وسائل الإعلام على مستوى العالم في أدنى مستوياتها على الإطلاق، حيث يعتقد كثير من
الناس أن المؤسسات الإخبارية مهتمة أكثر بتعزيز أجندة معينة من نشر الحقيقة.
إن تضاؤل الثقة
هذا ستكون له عواقب بعيدة المدى. ففي المجتمعات الديمقراطية، حيث يشكل الجمهور الواعي
ضرورة أساسية لعمل النظام السياسي، فإن انتشار المعلومات المضللة يمكن أن يقوض
نزاهة الانتخابات، والسجالات السياسية، والرأي العام. وعلاوة على ذلك، في أوقات
الأزمات، مثل جائحة كوفيد-19، يمكن أن يكون للأخبار المزيفة آثار تهدد الحياة، حيث
أدت المعلومات المضللة حول الفيروس واللقاحات إلى الارتباك والخوف، وفي بعض
الحالات، إلى نتائج قاتلة.
إن منصات
التواصل الاجتماعي تلعب دورًا محوريًا في انتشار الأخبار المزيفة. غالبًا ما تعطي
الخوارزميات المصممة لتضخيم المشاركة الأولوية للمحتوى المثير، بغض النظر عن دقته.
وهذا يخلق حلقة تغذية مرتدة حيث يتم تضخيم المعلومات الكاذبة وتصل بسرعة إلى جمهور
أوسع من الأخبار المشروعة. كما أن عدم الكشف عن الهوية الذي توفره هذه المنصات
يشجع أولئك الذين ينشرون الأخبار المزيفة، حيث هم غير معرضين للقليل من المساءلة
عن منشوراتهم.
وردًا على
الانتقادات المتزايدة، اتخذت بعض شركات وسائل التواصل الاجتماعي خطوات لمعالجة هذه
القضية. فقد نفذت فيسبوك وتويتر وجوجل برامج للتحقق من صحة المعلومات، ووضعت
علامات على المحتويات المضلِّلة، وفي بعض الحالات، أزالت المعلومات الكاذبة
تمامًا. ومع ذلك، فقد قوبلت هذه التدابير بردود فعل متباينة حيث يزعم المنتقدون أن
هذه الجهود قليلة جدًا ومتأخرة جدًا، وأن نماذج أعمال المنصات - التي تعتمد على
عائدات الإعلانات الناتجة عن مشاركة المستخدمين - تتعارض بشكل أساسي مع هدف
الترويج للمعلومات الدقيقة.
وإذا كان
التركيز منصبا بشكل كبير على دور المنصات الإلكترونية في نشر الأخبار المزيفة، فإن
وسائل الإعلام التقليدية ليست خالية من التحديات. فقد أدت دورة الأخبار على مدار
الساعة والضغوط التي تدفع الناس إلى أن يكونوا أول من ينشر قصة ما إلى تراجع
المعايير الصحفية في بعض الحالات. وفي عجلة النشر، نشرت بعض المنافذ الإعلامية عن
غير قصد معلومات مضللة، ثم أصدرت تصويبات بعد ذلك. وهذا من شأنه أن يزيد من تراجع ثقة
الجمهور ويطمس الخط الفاصل بين الصحافة الموثوقة والأخبار المزيفة.
ولمكافحة هذه
الآفة ، يتعين على وسائل الإعلام التقليدية أن تؤكد التزامها بالدقة والشفافية.
وينبغي أن يكون التحقق من صحة المعلومات جزءاً لا يتجزأ من عملية إعداد التقارير،
وينبغي إصدار التراجعات على الفور وبشكل واضح عندما تحدث أخطاء. وعلاوة على ذلك،
ينبغي للمؤسسات الإعلامية أن تستثمر في برامج محو الأمية الإعلامية لمساعدة جمهور القراء
على فهم أفضل لكيفية إنتاج الأخبار وكيفية تقييم المعلومات التي يستهلكونها بشكل
نقدي.
ومما لاشك فيه
أنه في هذه المعركة ضد الأخبار المزيفة، يلعب الجمهور دورًا حاسمًا. ولم تكن معرفة
وسائل الإعلام ــ القدرة على تحليل المعلومات وتقييمها بشكل نقدي ــ أكثر أهمية من
أي وقت مضى. وباعتبارهم مستهلكين للأخبار، يتعين على الأفراد أن يكونوا يقظين في
التشكيك في مصادر المعلومات التي يواجهونها والتمييز بين الصحافة الموثوقة
والأكاذيب.
هناك العديد من
الاستراتيجيات التي يمكن أن تساعد الجمهور على التنقل في المشهد الإعلامي المعقد.
أولاً، يمكن أن يساعد الربط بين المعلومات من مصادر موثوقة متعددة في التحقق من
دقة المعلومة والخبر. ثانياً، يمكن أن يمنع الوعي بالتأثير العاطفي للعناوين المثيرة
ردود الفعل الانفعالية التي تساهم في انتشار المعلومات المضللة. أخيرًا، يمكن أن
يوفر فهم الحوافز الاقتصادية والسياسية وراء بعض القصص الإخبارية سياقًا قيمًا
لتفسير المعلومات.
إن معركة
المصداقية في وسائل الإعلام لم تنته بعد. فالأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة
تشكل تحديًا هائلاً للصحافة المطبوعة والإلكترونية، ولكنها ليست مستحيلة. ومن خلال
تعزيز ثقافة الدقة والشفافية ومحو الأمية الإعلامية، يمكن لوسائل الإعلام
التقليدية والرقمية استعادة الثقة مع جماهيرها وتعزيز دور الصحافة كركيزة من ركائز
الديمقراطية.
في نهاية
المطاف، تقع المسؤولية على عاتق الجميع الصحفيين والمؤسسات الإعلامية ومنصات
التواصل الاجتماعي والجمهور. يجب عليهم العمل جميعا لضمان سيادة الحقيقة في مواجهة
الأكاذيب، واستمرار وسائل الإعلام في أداء دورها الحيوي في المجتمع كمصدر موثوق
للمعلومات. تعتمد مصداقية الصحافة على ذلك، وكذلك مستقبل المجتمعات الديمقراطية
المستنيرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق