الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، فبراير 01، 2025

"الرجل الذي حصد حقل السماء" نص سردي عبدو حقي


كان يوما تشققت فيه السماء مثل مرآة قديمة، وتجمدت كل الطيور في منتصف تحليقاتها. رأيتها، سربًا كبيرًا من الأجنحة الثابتة، لم تعد ظلالها تتحرك عبر الجدران المبلطة للمدينة. كان ذلك اليوم الذي التقيت فيه بالرجل الذي حصد حقل السماء.

كان جالسًا بجانب طفل، خارج باب لا يؤدي إلى أي مكان، وكان مقبضه يرتجف قليلاً وكأنه يتوقع زائرًا لن يصل أبدًا. كانت عينا الرجل مليئة بالانعكاسات، وكأنه يحمل في داخله كل الضوء المنبعث من النجوم المنسية. كان الطفل بجانبه يزهو في ابتسامة خافتة لشخص رأى للتو شيئًا مستحيلًا وقبله دون سؤال.

اقتربت، منجذبًا بالطريقة التي انحنى بها الهواء قليلاً حولهما. عدل الرجل نظارته، وكشف عن عينين تحتويان على مخططات الحضارات المفقودة. "دون أن يتكلم، أشار إلى السماء، حيث كانت خيوط طويلة من شيء أكثر نعومة من السحب تتكشف مثل خيوط من نول سماوي.

قال أخيرًا بصوت يحمل ثقل ألف كتاب : "السماء نسيج. لا يلاحظ معظم الناس ذلك أبدًا. ولكن بمجرد أن تراه يتقشر، فلن تتمكن أبدًا من نسيانه".

نظرت لأعلى. كانت الخيوط في كل مكان، تطفو إلى أسفل مثل المطر غير المرئي، متشابكة في أصابع الرجل. انتزع واحدة، ولفها بين أطراف أصابعه، وسلمها للطفل، الذي وضعها خلف أذنه وكأنها خصلة من الشعر الذهبي. ارتجفت السماء. انفتح باب في الهواء لفترة وجيزة، ليكشف عن شيء ضخم يدور في الداخل.

كان يجب أن أسأله عما كان يفعله. كان يجب أن أتساءل عن طبيعة هذه السماء المتكشفة. "بدلاً من ذلك، وجدت نفسي جالسًا بجانبهما، أراقب الطفل وهو يسحب خصلة أخرى بعناية وينسجها بين أصابعه، وكأنه يضفر شيئًا غير مرئي. ابتسم الرجل موافقًا، وتسببت الحركة الصغيرة في حدوث تموج في الهواء من حوله، وكأنه حجر سقط في محيط الوجود.

"كانت السماء دائمًا على هذا النحو"، تابع. "إنها متماسكة بأحلام منسية. في كل مرة يتخلى فيها شخص ما عن حلم، تفقد السماء خيطًا."

أومأ الطفل برأسه بجدية ومد يده إلى جيبه، وأخرج نموذجًا صغيرًا ومفصلًا بشكل مستحيل لمنزل بدون أبواب. وضعه بعناية في يدي الرجل. على الفور، تجمد الهواء من حولهما، وعادت خيوط السماء إلى مكانها بهمس ناعم.

حاولت أن أسأل عما حدث للتو، لكن كلماتي تشابكت مثل خيوط الدمى في حلقي. نظر إلي الرجل حينها، نظر إلي بصدق، وشعرت بأحلامي تتحول تحت نظراته. كم من أحلامي تخليت عنها؟ كم من الخيوط انتزعتها من السماء دون أن أدري؟ فكرت في كل القصص التي تركتها غير مكتملة، والرسائل التي لم أرسلها قط، والأبواب التي لم أفتحها قط. استقر وزن الأحلام الضائعة حولي مثل الغبار في علية قديمة.

وقف الطفل، وفرك يديه وكأنه يكمل مهمة ذات أهمية كبيرة. قام الرجل بتجعيد شعره، وللحظة، لمعت ملامحهما مثل الانعكاسات على بركة ساكنة. ثم استدارا نحو الباب الذي لا وجهة له، الباب الذي ارتجف في رياح القوى غير المرئية. وضع الرجل يده على المقبض. تموجت السماء خلفه.

قال بصوت هادئ مثل الفراغ بين ضربات القلب: "يجب أن تختار. هل ستصلح السماء، أم ستستمر في فكها؟"

لم أفهم السؤال، لكنني أومأت برأسي كما لو كنت أفهمه. أمسك الطفل بيدي لفترة وجيزة، وفي تلك اللحظة، شعرت بثقل السماء نفسها، وشعرت بنعومتها وهشاشتها. لم يكن فارغًا. لقد كان منسوجًا من أنفاس أولئك الذين تجرأوا على الحلم.

ثم انفتح الباب، وكشف عن لا شيء وكل شيء، ودخلا. وتسلل خيط أخير من السماء من بين أصابع الرجل وهو يختفي، ويذوب في الهواء مثل الكلمة الأخيرة من جملة غير مكتملة.

جلست هناك لفترة طويلة، أشاهد الطيور الثابتة في السماء، وأشعر بثقل أحلامي المنسية تضغط على ضلوعي. كان الهواء لا يزال يلمع بشكل خافت حيث كانت، وكأن الواقع نفسه لم يستقر بعد في مكانه.

ثم، لأول مرة في حياتي، مددت يدي وسحبت خيطًا من السماء.

وبدأت في النسج.

0 التعليقات: