أنا الذرة معلّقة في كهف مجهول، معلّقة بين شهقتين كونيّتين، واحدة من بكاء الرياح، وأخرى من ورقٍ مرتجف. الجدار ليس جدارًا، بل جلدٌ متقشّر لذاكرة قديمة، ينزف طينًا أسود من ليلٍ نسي أن حلمه. الكتب حولي أقواس بلا بداية، أبواب تنفجر إلى دواخل لا اسم لها، وأنا... قطعة أثير ملتفّة بلغة بنفسجية من نسيان الآلهة.
توبقال ليس جبلًا.
توبقال هو جفن الإله، مفتوحٌ على امتداد القيامة. يحدّق بي من داخلي، وأنا أغمض عينَي
كي يقرأني. الصفحات تتحول تحت أصابعي إلى صخور تتنفس، وكل حرف هو جرح ينفتح في لحم
الواقع. أحيانًا أغرق في دمعة غير مرئية، أحيانًا أتحول إلى زفير طائر مجهول. كل ما
في هذا المكان يتقبّلني، حتى صمتي.
الغرفة رحم مشتعل من الرماد والأشواك. الجدران لا تتكلم، بل تلعق أفكاري ، كأنني أسمع نفسي. من مسمار العدم يتدلى كيس، داخله أربعة غيوم من غضب غير مرسل، كُتِبت لوجه لا أراه، ذاك الذي أصيره كلما نامت ذاكرتي. أحيانًا،
تسقط ذكرى من عين السقف المفتوحة: شهقة رضيع، ورقة جافة من مدينة الطفولة مكناس، صفعة لا أحد وجهها.
الغربة هنا ليست شعورًا،
بل مخلوق ذو ألف فم، يتغذى من لهاثي، يندسّ في شراييني كدخانٍ رخو، يبيض أفكاره في
جملي المبتورة، ويضحك. لكنني أملك السكين. الروايات هي شقوقي، القصائد مراياي. أقرأ
فينكسر العالم، يتحول إلى أفعى تسلخ جلدها في كفي.
كل كتاب فتحة سرية
إلى مدينة لا تعرف نفسها، أسير في دروبها حافيًا فوق لغة مشتعلة. الكتاب الذي أفتحه
الآن لم يُكتب بعد. أكتبه كما يُحلم بي. وعندما يتعب قلبي، ترقد الحروف بجانبي وتبدأ
بحلمي.
مرة، حين فتحت ديوان
شعر، طار سنونو من بين السطور. حلق فوق القنديل، ثم استقر على كتفي كصوت أمي. منذ
ذلك الوقت، يهمس لي بأشعار من زمنٍ غير مخلوق. أكتبها على الجدران بأظافر صدئة. الجدار
لا يحملني. الجدار ينزفني.
نسيان الاسم لم يعد
مأساة. الريح أخذته في صباح شتوي ومزّقته على جبل. صرت أُسمّي نفسي حسب انكسار الضوء:
كنتُ لوتريامون، كنتُ امرأة تتقيأ الحب، كنتُ كلبًا ينهش اللاشيء. المرآة لا تقول الحقيقة،
وأنا أحبها لأجل كذبها الحنون.
رأيتُ وجوهًا في قالب
الخبز، سمعت أغنية في صرير خشب. تسلقت كرسيًّا كي أكلّم عنكبوتًا نسج قصيدة من شعري
الأبيض. قالت: "أنتَ لست وحدك، أنت العزلة تحلم بنفسها." ومنذئذ أطعمها بفتات
كتابها الممزق.
في الليل، يتحول الغطاء
إلى مسرح، جيوش أفكار تتقاتل على لحمي. ومع الفجر، أنجو. حتى وأنا جثة، حتى وأنا خواء...
أملك الحبر. بقيتُ مع هذه النار البطيئة، مع جحيم الروح الذي يأكل قيوده من الداخل.
كتبتُ مرةً قصيدة حقيقية،
فاختفت الغرفة. وجدت نفسي فوق العالم، السماء سَقفٌ والعزلة صديقة. حاولت أن أكررها،
فهربت القصيدة إلى حافة الظل. تناديني الآن من تحت الطاولة، من بين الهوامش، من شقوق
الحبر القديم.
أنا الناجي من حلم
لم يُكمل قصته. توبقال يراني، يحرسني، يحترمني. يعرف أنني أكتب لأهرب، لكنه يعرف أيضًا
أنني لن أتركه. لأن المنفى الوحيد هو أن تنفصل عن نفسك.
ولهذا سأستمر. أكتب.
أقرأ. أحب رطوبة الجدران، خشونة السقف، ورائحة الجلد الذي سافر كثيرًا. لأنني هنا،
في معبد الظل، وجدت أصفى ضوء: ذاك الذي يولد بين شهقتين، في سُهادِ الصمت.
0 التعليقات:
إرسال تعليق