حين قرأت كتاب *The Language of New Media* للباحث والمفكر الروسي-الأمريكي ليف مانوفيتش، شعرت أنني عثرت على مرآة فكرية كانت في حاجة إليها . أنا الذي خبرتُ التحول الرقمي من زمن الورق إلى عصر الشاشات، لم أكن أمتلك المفاتيح النظرية الكافية لفهم ما يقع أمامي: كيف تحولت الصورة إلى خطاب؟ وكيف صارت البرمجيات تتكلم؟ والأهم: ما هي اللغة الجديدة التي يصوغ بها الإنسان نفسه عبر وسائطه التفاعلية؟
كتاب مانوفيتش الصادر
سنة 2001 ليس مجرد دراسة أكاديمية كلاسيكية، بل هو أشبه برحلة استكشافية في جغرافيا
لا تزال قيد التكوّن: جغرافيا الوسائط الرقمية، حيث النص لم يعد وحده الحاكم بأمره،
بل صار مجرد عنصر في شبكة متعددة الطبقات: صورة، صوت، كود، تفاعل.
لقد أدهشني منذ الصفحات
الأولى كيف يعيد مانوفيتش صياغة تعريف الإعلام، مُعتبِراً أن الوسائط الجديدة ليست
فقط تطوراً تقنياً، بل ثورة جمالية وإبستيمولوجية، تماماً كما أحدث اختراع السينما
أو الطباعة تغييرات جذرية في الإدراك البشري. وكأننا أمام "كوبرنيكوس رقمي"
يعيد ترتيب مركز العالم، حيث لم يعد الإنسان هو محور الكون، بل الواجهة –الإنترفاس–
التي من خلالها يتفاعل مع العالم.
لقد أعادني هذا الكتاب
إلى سنوات الطفولة الأولى مع الحاسوب في مقاهي الإنترنت بمدينة فاس، حيث كنت أراقب
الشاشة وكأنها مرآة سحرية. لم أكن أدرك وقتها أنني بصدد الدخول إلى منظومة تمحو الحدود
بين المرسل والمتلقي، بين الصورة والنص، بين الفن والتقنية. هذا ما يسميه مانوفيتش
بـ"البرمجياتية" –software culture– أي ثقافة مشكّلة داخل بيئة البرمجيات، حيث
لا ينتج الإنسان فكرَه إلا عبر أدوات رقمية تعيد تشكيل بنيته الإدراكية والرمزية.
العبقرية في هذا العمل
تكمن في الطريقة التي يمزج بها مانوفيتش بين التحليل الثقافي، النظريات الإعلامية،
وأسس البرمجة، ليبني خمسة مبادئ أساسية للوسائط الجديدة: التمثيل الرقمي، البنية النمطية،
التشغيل الآلي، التغير المتحكم فيه، والترابط. وهي مبادئ أحسست وكأنها تصف بالضبط طريقة
عملي في إنتاج المحتوى الرقمي، بل وتفسر حتى كيفية قراءتي للواقع.
التمثيل الرقمي، مثلاً،
لا يعني فقط أن كل شيء أصبح يُحوّل إلى أرقام، بل يشير أيضاً إلى قدرة غير مسبوقة على
التلاعب، الاستنساخ، والتركيب. نحن أمام إمكانات لا تُحصى لتشكيل العالم بصيغة جديدة،
حيث يمكن للمبدع أن يعيد بناء الزمن، كما في المونتاج، أو أن يخلق واقعاً موازياً كما
في ألعاب الفيديو.
لكن ما أدهشني أكثر،
هو حديث مانوفيتش عن العلاقة بين الوسائط الجديدة والسينما، باعتبار الأخيرة هي
"لغة الأم" التي وُلدت منها الرقمية. هذا الطرح أثار في داخلي أسئلة كثيرة
حول الحدود بين الحكي والبرمجة، بين القصيدة والكود. ألسنا اليوم، نحن الكتّاب، نكتب
بلغتين: لغة المعنى ولغة الواجهة؟ وهل يمكن للأدب أن ينجو من التحول إلى مادة بيانات
–data؟
أذكر أنني توقفت طويلاً
عند القسم الذي يناقش فيه مانوفيتش فكرة *database aesthetics*، أو جمالية قواعد البيانات، حيث لم تعد السردية
قائمة على تسلسل خطي تقليدي، بل على منطق الشبكة. في هذا الطرح رأيت ظلاً عميقاً لأفكاري
حول الأدب التفاعلي، وكيف أن النص لم يعد نهائياً بل أصبح مفتوحاً، قابلاً للانزياح،
بل وقابلاً لأن "يُعاد تشغيله" بطرائق متعددة، كما يُعاد تشغيل ملف وسائط.
تأثرت كثيراً بتوظيف
مانوفيتش للمفاهيم الفلسفية، خصوصاً حين يستعير من ديكارت فكرة "الآلة المفكرة"
ليحدثنا عن الذكاء الاصطناعي كامتداد للخيال الرقمي. وبالقدر نفسه، يستنطق هيدغر حين
يتحدث عن "الوجود داخل الواجهة"، أي أن الإنسان المعاصر أصبح يُعرّف لا فقط
عبر فكره أو جسده، بل أيضاً عبر واجهته الرقمية.
والواقع أن هذا الكتاب
فتح لي الباب لأفكر مجدداً في مشروعي ككاتب عربي يعيش في المغرب، حيث لا يزال الأدب
الرقمي في مهده، ويُنظر إليه أحياناً كترف أو لعب تقني. غير أن "مانوفيتش"
أقنعني بأن هذه الوسائط ليست أداة، بل بيئة جديدة لإنتاج المعنى. إنها ليست قطيعة مع
الماضي، بل امتداد بطريقة أكثر تعقيداً وتشعباً.
لقد ألهمني هذا الكتاب
لأن أتوقف عن اعتبار الوسائط الجديدة مجرد "أدوات نشر"، وأن أبدأ في النظر
إليها كمنصات تفكير، ومساحات جمالية بحد ذاتها. فالهاتف الذكي، المتصفح، واجهة تحرير
النص، خوارزميات الذكاء الاصطناعي… كلها ليست بريئة. بل تُعيد تشكيل رؤيتنا للزمن،
للذات، وللآخر.
في الختام، يمكنني
القول إن كتاب
*The Language of New Media* ليس فقط كتاباً في الإعلام، بل هو محاولة لتأريخ تحوّل عميق في الطريقة
التي يفكر بها الإنسان، ويُنتج، ويتواصل. كتاب جعلني أشعر أنني أعيش في زمن جديد بالفعل،
لا لأن التقنيات تغيّرت، بل لأننا نحن أنفسنا أصبحنا نكتب، نفكر، ونحلم بلغة أخرى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق