في كتاب «هذا ليس نهاية الكتاب» (2010)، ينفتح القارئ على حوار ممتد بين الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو وصانع السينما والمثقف الفرنسي جان كلود كاريير. ما يبدو للوهلة الأولى نقاشًا عن الكتب والمكتبات سرعان ما يتحول إلى تأمل عميق في علاقة الإنسان بالذاكرة، وفي الصراع بين الكلمة المطبوعة والموجة الرقمية العاتية. فالمكتبة هنا ليست مجرد رفوف تضم مؤلفات، بل فضاء رمزي يقاوم النسيان، ويؤكد على أن التاريخ والحضارة لا يمكن اختزالهما في سحابة إلكترونية زائلة. وسط هذا السجال، تبرز أسئلة أساسية: هل نحن مقبلون فعلًا على «نهاية الكتاب»؟ أم أن كل ثورة تقنية لا تلغي ما سبقها بل تعيد تشكيله في أفق جديد؟
يضع الحوار بين إيكو
وكاريير القارئ أمام مفارقة عميقة: التكنولوجيا الرقمية تقدّم نفسها باعتبارها بديلاً
جذابًا للكتاب الورقي، لكنها في الوقت ذاته تُعيد تسليط الضوء على قيمته الفريدة. كلا
المفكرين ينطلق من إيمان بأن الكتاب، بوصفه أداة للذاكرة الجماعية، يحمل صلابة تتجاوز
هشاشة الوسائط الحديثة. فمنذ اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر، ظل الكتاب الوسيلة
الأوثق لنقل المعرفة، بينما لم تُثبت الوسائط اللاحقة استقرارًا مماثلًا.
إيكو، الذي عرف بقدرته
على الجمع بين السرد الروائي والبحث الأكاديمي، يرى أن الكتاب مثل العجلة: اختراع كامل
لا يمكن تحسينه بل فقط توسيع استخدامه. أما كاريير، القادم من عالم السينما حيث تتجدد
الوسائط بشكل متسارع، فيؤكد أن الرقمنة تحمل وعودًا هائلة لكنها لا تُلغي الحاجة إلى
الكتاب كجسد ملموس يتيح للقارئ علاقة حسية بالمعرفة.
في قلب النقاش تكمن
إشكالية المكتبات. إيكو يصفها بأنها «مستودعات الذاكرة» التي تحفظ ما هو أساسي وما
هو هامشي معًا، إدراكًا منه أن التاريخ لا يميز مسبقًا بين النصوص الخالدة والنصوص
العابرة. هنا يتقاطع حديثهما مع ما قاله الفيلسوف بول ريكور عن «الذاكرة والنسيان»،
حيث إن حفظ الوثائق هو في حد ذاته فعل مقاومة للنسيان. أما في الفضاء الرقمي، حيث تُغمر
النصوص في محيط لا نهائي من البيانات، تبرز مخاطر فقدان الترتيب والتسلسل الزمني، ما
يجعل استعادة الماضي أكثر هشاشة.
الحوار أيضًا يلامس
سؤال الزمن. ففي حين يبدو الكتاب الورقي كجسد ينجو من التحولات، يظل الوسيط الرقمي
رهين التحديثات الدائمة واحتمال الانقطاع. هذا ما يجعل تجربة القراءة في العالم الرقمي
أقرب إلى تصفح لا نهائي، بينما تمنحنا القراءة الورقية إحساسًا بالاكتمال والتدرج.
ومن هنا يمكن فهم تشبيه إيكو بأن الكتاب أشبه بـ«المخطوط المقدس» الذي يمنح القارئ
يقينًا بوجود بداية ونهاية، بعكس النصوص الرقمية التي تنفتح على لامحدوديات قد تُفقد
المعنى.
غير أن الكتاب لا يغلق
الباب أمام المستقبل. فإيكو وكاريير يقرّان بأن الثقافة الرقمية قادرة على توسيع نطاق
الوصول إلى المعرفة بشكل غير مسبوق. فالكتب المرقمنة، وقواعد البيانات المفتوحة، تتيح
للأجيال الجديدة إمكانيات بحث وتنقيب لم يعرفها التاريخ من قبل. لكنها في الوقت ذاته
تُثير مخاوف تتعلق بالحقوق الفكرية، بهيمنة الشركات الكبرى، وبسؤال من يتحكم فعليًا
في الذاكرة الرقمية للبشرية. هذه المخاوف ليست بعيدة عن النقاشات المعاصرة حول «رأسمالية
المراقبة» التي وصفتها شوشانا زوبوف، حيث تتحول البيانات والمعرفة إلى سلعة في سوق
عالمي محتكر.
من زاوية أخرى، يشدد
الحوار على أن النسيان ضروري بقدر ما أن الذاكرة ضرورية. فكما يذكر كاريير، لو احتفظنا
بكل شيء فلن يبقى للذاكرة معنى. المكتبات تختار، والرقمنة تغمر، وبين هذين الحدّين
يتشكل مصير الثقافة. وهنا يستعيد إيكو سؤال الأرشفة: كيف نوازن بين الحفظ والإقصاء؟
بين التراكم والتصفية؟ إن الإجابة عن هذه المعضلة ستحدد ما إذا كانت الإنسانية قادرة
على الاستفادة من الثورة الرقمية دون أن تفقد صلتها بجذورها الورقية.
الأهم أن هذا الحوار
يتجاوز ثنائية «الكتاب مقابل الشاشة» ليطرح رؤية أكثر تركيبًا: فكل وسيلة جديدة لا
تنفي السابقة، بل تدخل معها في علاقة جدلية. السينما لم تلغ المسرح، والتلفزيون لم
يُلغِ السينما، وكذلك الإنترنت لن يُلغي الكتاب. على العكس، قد يكون هذا التعايش مدخلاً
لإعادة تعريف طرق القراءة والكتابة والتلقي. وهنا تكمن قوة الكتاب: أنه لا يكتفي بأن
يكون وعاءً للمعرفة، بل يصبح رمزًا لاستمرار الحضارة عبر التحولات.
في النهاية، يبدو أن
العنوان الاستفزازي «هذا ليس نهاية الكتاب» يحمل نبوءة مزدوجة. فمن جهة، لا شيء يهدد
وجود الكتاب بوصفه أداة فريدة للحفظ والتأمل. ومن جهة أخرى، فإن الرقمنة تفرض إعادة
التفكير في معنى المكتبة والذاكرة والمعرفة في عالم تتسارع فيه التغيرات. وهكذا، فإن
الحوار بين إيكو وكاريير لا يقدّم أجوبة نهائية، بل يترك القارئ أمام مفارقة غنية:
أن نحافظ على الكتاب كجسد حي، وفي الوقت نفسه ننفتح على المستقبل الرقمي بوصفه فرصة
لا مفر منها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق