الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، سبتمبر 24، 2025

قراءة في كتاب "قراءة بعيدة" لفرانكو موريتي: ترجمة عبده حقي


يشكّل كتاب «Distant Reading» (2013) للناقد الإيطالي فرانكو موريتي واحداً من أكثر الأعمال إثارة للجدل والتجديد في حقل الدراسات الأدبية المعاصرة. فالكتاب لا يكتفي بطرح تساؤلات حول طرق قراءة النصوص، بل يقترح ثورة منهجية تقوم على الاستعانة بالأدوات الكمية، والإحصاءات، والنماذج النظرية المستعارة من العلوم الاجتماعية والطبيعية، من أجل مقاربة الأدب بشكل مختلف عن القراءة التقليدية «القريبة» (Close Reading)  التي سادت النقد الأدبي منذ بدايات القرن العشرين.

موريتي ينطلق من ملاحظة أساسية: المكتبات الأدبية العالمية باتت شاسعة إلى حدّ يستحيل معه على الباحث أو الناقد أن يقرأ كل النصوص. فإذا كان التقليد النقدي يعتمد على قراءة عميقة لعدد محدود من «النصوص الكبرى»، فإن ذلك يترك آلاف الروايات والقصائد والنصوص المهمّشة خارج مجال الاهتمام. ومن هنا يأتي اقتراحه: القراءة البعيدة، أي استبدال التحليل التفصيلي للنصوص الفردية بمقاربة إحصائية تعتمد على قواعد بيانات ضخمة تسمح برصد الأنماط العامة والاتجاهات التاريخية للأدب.

يرى موريتي أن الأدب يجب أن يُدرس كـ«نظام» متكامل، لا كأعمال منعزلة. لذلك فهو يستعير مفاهيم من علم الاجتماع، والاقتصاد، وحتى من نظرية النظم المعقّدة. ففي مقالات الكتاب، نجد تحليلات للرواية العالمية من خلال دراسة صعودها وانتشارها بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث يستعين موريتي بالخرائط والجداول الزمنية ليرصد تدفق الأشكال الروائية من أوروبا إلى بقية العالم.

أحد المشاريع الفرعية التي يعرضها موريتي في هذا الكتاب هو «الأطلس الأدبي

» (Atlas of the European Novel)، حيث يقترح استخدام الخرائط لفهم العلاقة بين الفضاء الجغرافي والبنية السردية. فالمكان هنا ليس مجرد خلفية، بل عامل جوهري في تكوين السرد وتحديد مسارات الشخصيات. بذلك يفتح الباب أمام مقاربة «جيوأدبية» تدمج التحليل المكاني بالتحليل النصي.

يصرّ موريتي على أن القراءة البعيدة ليست وصفاً محايداً، بل هي بناء للنماذج. والنموذج بطبيعته عملية تبسيط للواقع، لكنها تبسيط ضروري يسمح بفهم الكليات بدلاً من الغرق في الجزئيات. وفي هذا السياق، يقدّم مثالاً حول تطور أشكال الرواية البوليسية، مبرزاً كيف أنّ الابتكار الأدبي يخضع غالباً لدورات وانتظامات قابلة للرصد الكمي.

لم يسلم هذا الطرح من الانتقادات. فالكثير من النقّاد اعتبروا أن القراءة البعيدة تختزل النصوص وتحوّلها إلى أرقام وجداول، متجاهلة جماليات اللغة والأسلوب، أي ما يجعل الأدب أدباً. لكن موريتي يردّ بأن الهدف ليس إلغاء القراءة القريبة، بل مكاملتها: فالأدب يحتاج إلى عينين، إحداهما تقترب من النصوص لتفكك تفاصيلها، والأخرى تبتعد لترى الصورة الكلية.

أهمية «Distant Reading» تتجاوز الكتاب نفسه، إذ أصبح أحد المراجع المؤسسة لحقل الإنسانيات الرقمية (Digital Humanities). فقد ألهم الباحثين على تطوير أدوات حاسوبية لتحليل النصوص، من معالجة اللغة الطبيعية إلى رسم الخرائط التفاعلية. ومع تزايد الاهتمام بالبيغ داتا (Big Data)، صار مشروع موريتي أكثر راهنية في زمن تفيض فيه النصوص الرقمية.

في نهاية المطاف، يقدّم موريتي تحدياً مزدوجاً: للناقد الأدبي كي ينفتح على أدوات جديدة، وللقارئ كي يعيد التفكير في معنى القراءة نفسها. «القراءة البعيدة» لا تدعو إلى التخلي عن متعة الانغماس في النصوص، بل إلى توسيع أفقنا لرؤية الأدب كظاهرة عالمية متشابكة، لها قوانين وأنماط يمكن رصدها كما تُرصد الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية.

وهكذا يظل «Distant Reading» كتاباً مفتوحاً للنقاش، يثير الحماس والجدل في آن، ويدعو إلى إعادة تعريف وظيفة النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين.

0 التعليقات: