تُعدّ مسألة السببية من أعمق القضايا الفلسفية التي أثارت جدلاً بين الفلاسفة منذ القرن الثامن عشر، خصوصاً في مواجهة الأطروحات التي قدمها الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم، وردّ الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط عليها. هذا الجدل لم يكن نقاشاً تقنياً محدوداً، بل شكّل منعطفاً في تاريخ الفلسفة الحديثة، لأنه مسّ جوهر العلاقة بين العقل والتجربة، وبين الظاهر والضرورة.
انطلق هيوم من ملاحظة بسيطة: حين ننظر إلى أحداث الطبيعة، فإننا لا نرى سوى توالي ظواهر؛ فالنار تُقارب اليد، ثم يحدث الاحتراق. لكن لا شيء في صورة النار أو طبيعة اللهب يكشف لنا عن “ضرورة” أن يلي الاحتراق. كل ما نعاينه في الواقع هو اقتران ثابت ومتكرر بين حدثين.
من هنا خلص هيوم إلى
أنّ السببية ليست معطى عقلياً قبلياً، ولا قانوناً موضوعياً مستقلاً عن الذهن. إنما
هي ثمرة العادة
(custom) أو ما
يسميه "الاقتران الثابت
"
(constant conjunction). أي أن الذهن، بعد أن يعتاد رؤية اقتران حدثين معاً، يتكوّن لديه توقّع
بأن يتبع أحدهما الآخر. بهذا المعنى، يصبح "الإحساس بالضرورة" مجرد إسقاط
نفسي أكثر منه حقيقة موضوعية.
هذه النتيجة أدت بهيوم
إلى مشكلة أعمق هي مشكلة الاستقراء: إذا لم يكن هناك ما يضمن عقلياً أن المستقبل سيكون
مطابقاً للماضي، فما الذي يبرّر ثقتنا في أن قوانين الطبيعة ستظل سارية غداً كما كانت
بالأمس؟
لقد واجه كانط هذا
المأزق بجدية، ورأى في الشك الهيومي تنبيهاً إلى خطورة المشكلة. لكنه رفض الاستسلام
لنتائج هيوم التي تهدد العلم نفسه. فالعلم الطبيعي، كما عند نيوتن، قائم على قوانين
ضرورية عامة، وليس مجرد توقعات نفسية.
جوهر ردّ كانط يقوم
على فكرته الشهيرة حول التركيب القبلي للعقل. بالنسبة إليه، التجربة الحسية وحدها لا
تكفي لإنتاج معرفة موضوعية؛ إذ لا بد أن يتدخل العقل عبر ما يسميه "المقولات"
أو "المفاهيم القبلية". وهذه المقولات – ومنها السببية – ليست مستمدة من
التجربة، بل هي شروط ضرورية تفرضها بنية الذهن على معطيات الحس، حتى تنتظم في صورة
تجربة متماسكة.
بهذا المعنى، ليست
السببية نتيجة العادة كما اعتقد هيوم، بل هي إطار قبلي يجعل التجربة ممكنة أصلاً. كل
تغيير في الظواهر لا يمكن أن يُفهم إلا باعتباره نتيجة لسبب ما. لذلك يؤكد كانط: «كل
حادثة لا بد أن تكون لها علة». هذه القاعدة ليست قانوناً تجريبياً، بل مبدأ قبلي، كوني
وضروري.
يضيف كانط تمييزاً
مهماً: فهناك فرق بين المبدأ العام للسببية – أي أن لكل حدث سبباً – وهو قبلي وضروري،
وبين القوانين الخاصة للطبيعة مثل قانون الجاذبية أو قوانين الكيمياء، وهي قوانين تُكتسب
من التجربة، لكنها لا تُفهم إلا في ضوء ذلك المبدأ العام.
فالقانون الخاص قد
يتغير مع تقدم العلم، لكن المبدأ العام لا يتغير لأنه شرط منطقي لإمكان قيام أي علم
بالظواهر. من دون الاعتقاد بوجود علاقة سببية، لا يمكن بناء نظرية علمية، بل ولا حتى
تنظيم إدراكاتنا في إطار زمني مترابط.
مع ذلك، بقيت أطروحة
كانط عرضة لتساؤلات. فكيف يمكن لقوانين طبيعية خاصة، تُستمد بالتجربة، أن تحمل صفة
الضرورة؟ وهل يمكن القول إن المقولات القبلية للعقل صالحة عند كل الكائنات العاقلة،
أم أنها خاصة بالبنية الإنسانية فقط؟
النقاش المعاصر يرى
أحياناً أن المسافة بين كانط وهيوم ليست مطلقة. فكلاهما يقر بأن القوانين الطبيعية
تُعرف عبر الملاحظة، لكن هيوم ينفي عنها صفة الضرورة، في حين يسعى كانط لإسنادها إلى
بنية الذهن. الفارق إذن هو في تفسير "المصدر" الذي يمنح للعلم مشروعيته:
العادة عند هيوم، والعقل القبلي عند كانط.
تكشف هذه المواجهة
بين هيوم وكانط عن مأزق فلسفي عميق ما زال يلقي بظلاله على الفكر المعاصر. فمن جهة،
نحن نعيش حياتنا ونمارس العلم وكأن السببية ضرورة مطلقة لا تقبل الشك. ومن جهة أخرى،
يذكّرنا هيوم بأن هذه الضرورة قد تكون مجرد بناء ذهني تعوّدناه.
وإذا نظرنا من زاوية
الأدب والفن، فإن السببية ليست مجرد مفهوم علمي أو منطقي، بل هي أيضاً شرط للسرد والحكاية.
فالروايات والقصائد والأفلام تقوم على مبدأ أن الأحداث مترابطة بسبب ونتيجة. بهذا المعنى،
يبقى السؤال الفلسفي حول السببية مسكوناً في عمق وعينا، بين العلم والخيال، بين العقل
والتجربة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق