الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، سبتمبر 24، 2025

بصمة الكربون الخفية للصحافة الورقية: عبده حقي


لا يخفى على أحد أنّ الصحافة الورقية لطالما ارتبطت بصورة رومانسية تختزن رائحة الحبر وملمس الورق، غير أنّ خلف هذه الصورة تكمن تكلفة بيئية باهظة قلّما تُناقش في النقاشات العمومية. إنّ الحديث عن البصمة الكربونية للصحافة الورقية ليس ترفًا بيئيًا، بل ضرورة فكرية وعملية في زمن تتسارع فيه التحولات المناخية، ويُعاد فيه التفكير في كل قطاع باعتباره جزءًا من معادلة الاستدامة العالمية.

تشير الدراسات الحديثة إلى أنّ إنتاج صحيفة يومية واحدة يتطلب استهلاك كميات ضخمة من المياه والطاقة، فضلًا عن عمليات قطع الأشجار وصناعة الورق والطباعة والنقل والتوزيع. في تقرير أصدرته منظمة World Resources Institute حول الصناعات الورقية، نجد أنّ صناعة الورق تُعدّ من أكثر الصناعات استهلاكًا للمياه، إذ يتطلب إنتاج طن واحد من الورق ما يقارب 24 ألف لتر ماء. وإذا أضفنا إلى ذلك الانبعاثات الناتجة عن الحبر المكوّن من مشتقات بترولية، ووسائل النقل التي تحمل آلاف النسخ يوميًا، فإننا نكتشف أن الجريدة المطبوعة ليست منتجًا بريئًا بل حلقة في سلسلة طويلة من استنزاف الموارد.

هنا يبرز سؤال حتمي: هل التحول إلى الصحافة الرقمية يعني بالضرورة تقليص البصمة الكربونية؟ الجواب ليس بسيطًا. فالصحافة الرقمية، رغم خفّتها المادية، ترتكز على مراكز بيانات ضخمة تستهلك طاقة هائلة لتخزين وتوزيع المحتوى. ومع ذلك، تُظهر المقارنات الأكاديمية أنّ القراءة الرقمية، إذا ما قورنت بالورقية على المدى المتوسط والطويل، أقل تلويثًا، شريطة أن تعتمد على طاقة متجددة. فقد خلصت دراسة منشورة في Journal of Industrial Ecology إلى أنّ الأثر البيئي لقراءة الأخبار عبر الأجهزة اللوحية على مدار عام كامل يبقى أقل من شراء الصحف المطبوعة يوميًا.

لكن القضية لا تنحصر في الحسابات البيئية المجردة. إنّها تحمل أيضًا أبعادًا ثقافية وسياسية. فالصحافة الورقية، التي شكّلت في القرنين التاسع عشر والعشرين الذاكرة الجمعية للشعوب، تجد نفسها اليوم في مواجهة مساءلة أخلاقية تتجاوز أزمتها الاقتصادية. إنها مطالبة، كما يرى برونو لاتور في كتابه Face à Gaïa، بأن تتحمل مسؤولية جديدة أمام "الكائن الأرضي" الذي يتمرد على كل محاولات الهيمنة البشرية. فالمناخ أصبح لاعبًا سياسيًا بامتياز، والصحافة — سواء ورقية أو رقمية — مدعوة إلى إعادة صياغة علاقتها مع هذا اللاعب غير المرئي.

يمكننا أن نرى في هذا السياق أنّ الصحافة ليست فقط مرآة للواقع السياسي والاجتماعي، بل أيضًا فاعلًا في تشكيل مستقبل الكوكب. وإذا كانت الصحف في السابق تُسقط أنظمة أو تُوجّه الرأي العام، فإنها اليوم مطالبة بأن تُسهم في خفض الانبعاثات الكربونية عبر إعادة التفكير في نموذجها الإنتاجي. فقد بدأ بعض الناشرين الكبار، مثل The Guardian البريطانية، في نشر تقارير دورية عن بصمتهم البيئية، متعهدين بخفضها من خلال استخدام ورق مُعاد تدويره، وأحبار صديقة للبيئة، وتوزيع أقل اعتمادًا على النقل التقليدي.

هنا تلوح معادلة معقدة: كيف نحافظ على التقاليد الثقافية المرتبطة بالصحافة الورقية، دون أن نغض الطرف عن الكلفة البيئية المتزايدة؟ لعل الحل يكمن في الهجين: نماذج صحافة تعتمد على النسخ الرقمية أساسًا، مع وجود محدود ومدروس للإصدارات الورقية، أشبه بعمل فني يُقتنى لا بسلعة استهلاكية عابرة. وفي ذلك تحاكي الصحيفة الورقية اللوحة الزيتية التي لم تعد أداة توثيقية كما كانت في عصر النهضة، بل تحوّلت إلى قيمة رمزية وجمالية.

إنّ السؤال البيئي، في نهاية المطاف، يعيد تشكيل المشهد الإعلامي من جديد. فالصحافة التي وُلدت لتكون سلطة رابعة، تجد نفسها اليوم أمام اختبار مختلف: أن تكون سلطة مسؤولة عن أثرها في الكوكب، وأن تتحول من مجرد ناقل للأخبار إلى فاعل في معركة بقاء البشرية. وكما قال الفيلسوف أولريش بيك في كتابه مجتمع المخاطر، فإن الحداثة المتأخرة لا تُقاس بقدرتنا على إنتاج الثروة، بل بقدرتنا على إدارة المخاطر التي نصنعها بأيدينا.

وبين سطور الصحف المطبوعة، التي قد تذبل كالأوراق في الخريف، يتردد صدى سؤال لا مفر منه: هل يمكن أن تظل الصحافة الورقية شاهدًا على التاريخ من دون أن تكون شريكًا في استنزاف المستقبل؟

0 التعليقات: