تظل مسألة القضاء والقدر من أكثر القضايا إلحاحًا في الفكر الإسلامي والفلسفة الدينية على السواء، إذ تتقاطع فيها أسئلة الإنسان حول الحرية والمسؤولية مع البحث عن معنى الوجود وعلاقته بالمطلق. وإذا كان النص القرآني قد منح هذه القضية موقعًا جوهريًا في رؤيته للكون والحياة، فإن النقاشات الفكرية التي أثارها المسلمون عبر العصور جعلت منها مجالًا خصبًا للتأويل والتأمل، وصولًا إلى الحاضر حيث يستعاد النقاش بلغة جديدة في فضاءات فكرية مثل "صالون علمانيون".
في الخطاب القرآني،
يظهر القضاء والقدر باعتباره تجليًا لإرادة الله المطلقة، التي لا يخرج عنها شيء في
الكون. لكن في الوقت ذاته، يؤكد النص على حرية الاختيار ومسؤولية الفرد أمام أفعاله.
هذا التوتر الظاهر بين الحتمية والحرية لم يكن تناقضًا بقدر ما كان دعوة إلى التفكير
في طبيعة العلاقة بين الإنسان وربه: هل نحن مسيَّرون بالكامل وفق مخطط مسبق، أم أننا
نملك قدرة حقيقية على صناعة مصائرنا؟
تاريخيًا، انقسم المتكلمون
والفلاسفة المسلمون في مقارباتهم لهذه المعضلة. فالمعتزلة دافعوا عن حرية الإرادة حفاظًا
على عدل الله ومسؤوليته الأخلاقية، بينما أكد الأشاعرة على "الكسب" كصيغة
وسطى بين الجبر والاختيار، محاولين التوفيق بين سيادة الإرادة الإلهية ومشاركة الإنسان
في الفعل. أما الفلاسفة من أمثال ابن سينا والفارابي، فقد انشغلوا بمسألة السببية والضرورة
الطبيعية وربطوا القدر بالنظام الكوني الأشمل، مما أضاف بعدًا ميتافيزيقيًا للنقاش.
في الحوارات الحديثة
التي يقدمها مثقفون أمثال الدكتور ساهر رفيع، يُعاد تناول المسألة بعيدًا عن الصياغات
الجدلية القديمة، نحو مساءلة فلسفية أكثر التصاقًا بالواقع الإنساني. لم يعد السؤال
يقتصر على: "هل نحن أحرار أم مجبرون؟"، بل يتسع ليشمل إشكاليات أعمق تتعلق
بمسؤولية الفرد في بناء مجتمع عادل، وإمكانية التحرر من الاستسلام لفكرة القدر كذريعة
للعجز أو التواكل. بهذا المعنى، تتحول قراءة القضاء والقدر إلى دعوة للنهوض بالفعل
الإنساني بدل اختزاله في انتظار ما تقرره السماء.
القضاء والقدر، في
جوهره، يطرح علاقة الإنسان بالزمن والحدث والموت. فالقدر ليس مجرد "مكتوب"
يفرض نفسه من خارج الذات، بل تجربة يعيشها الإنسان في مواجهة ما يتجاوز طاقته، وفي
سعيه لتأويل معنى وجوده وسط عالم مفعم بالمفاجآت. من هنا، يمكن أن نفهم أن الإيمان
بالقدر لا يلغي الإرادة، بل يمنحها أفقًا وجوديًا يجعل من الفعل الإنساني أكثر وعيًا
بمحدوديته، وأكثر إدراكًا لقيمته.
إن إعادة التفكير في
فلسفة القضاء والقدر ليست مجرد تمرين ذهني في تفسير النصوص، بل هي محاولة لإعادة تأسيس
علاقة الإنسان بذاته وبعالمه. إنها دعوة إلى النظر إلى القدر لا بوصفه قيدًا، بل باعتباره
فضاءً مفتوحًا للتفاعل بين الحرية والإيمان، بين الفعل والمسؤولية. وفي هذا الأفق يتضح
أن الفلسفة ليست غريبة عن النص القرآني، بل هي امتداد لأسئلته المفتوحة على معنى الحياة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق