تُعدّ رواية الشيطان في الجسد (1923) للكاتب الفرنسي ريمون راديغيه من أبرز الأعمال الروائية التي أثارت جدلاً واسعاً في بدايات القرن العشرين، إذ كتبت بقلم شاب لم يتجاوز العشرين عاماً، لكنها حملت نضجاً فكرياً وأسلوباً فنياً يسبق العمر القصير لمؤلفها. الرواية لا تكتفي بسرد قصة حب مأساوية، بل تقدّم نقداً صريحاً لقيم المجتمع والحرب والبرجوازية، وتضع القارئ أمام مأزق العاطفة الجامحة التي تتحدى كل التقاليد.
يروي النص قصة مراهق
في الخامسة عشرة من عمره، لا يُذكر اسمه، يعيش حالة حب محمومة مع امرأة تكبره تدعى
مارت. الأخيرة مخطوبة لشاب يدعى جاك، أُرسل إلى جبهات القتال خلال الحرب العالمية الأولى.
يستغل الفتى غياب الزوج المستقبلي ليقتحم حياة مارت، ويقودها إلى علاقة سرية تتجاوز
حدود البراءة.
على الرغم من زواجها
بجاك، تواصل مارت علاقتها الممنوعة، حتى تصل إلى لحظة مأساوية حين تحمل من عشيقها الصغير.
تنتهي القصة بوفاة مارت أثناء الولادة، تاركةً المراهق في مواجهة صدمة الموت والذنب،
وهو ما يضع حداً فجائياً لمرحلة الطيش والاستهتار.
صدرت الرواية في زمنٍ
كانت فيه فرنسا تعيش صدمة الحرب وتُمجّد صورة الجندي البطل. لكن راديغيه قلب الصورة
رأساً على عقب: الحرب ليست سوى خلفية باهتة، بينما البطولة الحقيقية عند بطله هي العصيان
والتمرد العاطفي. لذلك عُدّت الرواية فضيحة أدبية وأخلاقية، لأنها جسّدت خيانة مزدوجة:
خيانة الوطن في زمن الحرب، وخيانة مؤسسة الزواج.
العنوان ذاته، الشيطان
في الجسد، يرمز إلى العاطفة الجسدية الجامحة التي تحكم المراهقة. البطل لا يعرف التوازن
ولا يضع حدوداً لرغباته، بل يتعامل مع الحب كـ«لعبة خطرة» تقود إلى الفوضى والهلاك.
في ذلك تعبير صريح عن المراهقة كمرحلة يقودها الغرور والأنانية أكثر مما يقودها الوعي.
تميزت لغة الرواية
بالبساطة والصفاء، جُمل قصيرة، سرد مكثّف، ونبرة تجمع بين البرود والصدق. هذه النبرة
تبتعد عن الرومانسية التقليدية لتقدّم نظرة أشبه بالتحليل النفسي للغرام. النقاد رأوا
فيها انعكاساً لموهبة فذة لم تسعفها الحياة الطويلة، إذ توفي راديغيه في العشرين من
عمره.
أشاد جان كوكتو وأندريه
جيد وغيرهما بجرأة النص وصفاء أسلوبه، ورأوا فيه عملاً يؤرخ لجيل فقد براءته وسط الحرب.
ومنذ ذلك الحين صارت الرواية جزءاً من الكلاسيكيات الفرنسية التي تُقرأ كوثيقة عن شبان
واجهوا المأساة بالعشق والتمرد.
تضعنا الشيطان في الجسد
أمام سؤال مركزي: هل يمكن للحب أن ينجو وسط مجتمع مثقل بالحرب والتقاليد؟ الجواب الذي
يقدمه راديغيه مأساوي، لكنه يظل شاهداً على أن العاطفة حين تتحرر من كل قيد قد تصبح
قوة مبدعة ومميتة في آنٍ واحد. الرواية بذلك ليست مجرد قصة غرامية، بل مرآة لجيلٍ كامل
عاش التناقض بين الطفولة والكهولة، بين الرغبة والواجب، وبين الحياة والموت.
0 التعليقات:
إرسال تعليق